يسقط المساء كما كل نهايات الأيام أحياناً بتعب وأحياناً أخرى بالرحيل إلى مكان آخر لا يشبه النهار أو يخفف من حمله، وكثيراً ما تنتهي الأيام مؤخراً كما بدأت بمشاهدات أكثر عن مزيد من الإبادة والعالم أو بعضه يكتفي بالفرجة، وبعض الحسرة أو الحزن ثم العودة للروتين اليومي، وتتدحرج الأسئلة وكلها لا تبعد عن أن تكون جزءاً من تلك الثقافة، مثل «ما نأكل هذا المساء؟» أو «أين نسهر هذا المساء؟» أو ربما لأولئك الذين ما زال لديهم «بعض» إحساس أو ضمير «ما آخر أخبار الحرب؟».
المساءات في الصيف كانت قبل كل «التطور» و«التمدن» والمقاهي والمطاعم والملاهي الليلية أو ما يشبهها، كانت بسيطة جدا مثل عشاء بسيط، ثم مشاهدة فيلم رومانسي هادئ يساعد في النوم بأحلام سعيدة، أو يأخذ الفرد منا إلى سموات في بحور لازوردية وحدائق خضراء كأوراق الربيع، مساءات كانت تبدأ بالمشي بمحاذاة الشاطئ أو حافة نهر أو بحيرة، بالتأكيد يختلف المشي اعتماداً على أي بلد عربي أنت فيه!!!
كان الماء، أو القرب منه، كما الآن هو رفيق الصيف بل أصبح رفيق الصيف والربيع وبعض الخريف ربما!! فجأة أصبح الماء ككل شيء بثمن، أو تحول إلى مادة «ربحية» في سوق الاستهلاك، وثقافته واقتصاد يعتمد على أنه لا حق لك، أي المواطن البسيط، إلا قدر قدرتك على الدفع، وأصبح الماء والهواء النقي في صيف «جهنمي» حار، لا جهنمي بمعنى جميل وفائق الروعة!!! أصبح الماء والهواء والترفيه وكل الأمور التي تضفي بعض الجمال والرقة على حياة تصحرت حتى في وقت السيول، أصبحت بثمن وكلفة لا حق للمواطن بل عليه أن يدفع ثمنه!!!
كان أهل الخليج ببساطتهم الآخذة في التلاشي أسرع من نفطهم وثرواتهم، يتجهون صوب البحر بشواطئه المفتوحة، فلا عليك سوى أن تفرش سجادتك أو شرشفاً قطنياً وتجلس تحتسي بعض المشروبات الغازية المثلجة أو الشاي غير المثلج، فلم نعتد الشاي المثلج إلا بعد الغزو الثقافي الأميركي الذي تغلغل لكل بيت وغرفة نوم!!! وبعض الحَبّ والحب بالخليجي هو «البزر» أو «اللب»، حسب أي بلد عربي أنت منه وفيه، وربما خبز التنور والنخي أو الحمص والباجله أي الفول، كم كانت حياتنا وحياتهم غنية ببساطتها، وكم أصبحت فقيرة في ازدحامها بكل التفاهات والمدخلات من مأكولات كثير منها لا يشبه الماء الذي نرحل له لنغتسل من عرقنا وتعبنا ونمرح لبعض الوقت راقصين معه أو بين أمواجه.
المساءات الآن ثقيلة بل مكلفة، وهي قاتلة لأهلنا هناك في غزة وكل فلسطين، حتى أصبح الاستيقاظ من بعض النوم أو اللا نوم كتسلق الجبال أو كعبور للمحيطات، مسألة شاقة ومرهقة كونها تشكل الاستفاقة على صور الموت والدمار وكل ما يرمز لحياة كانت وهي عائدة حتماً رغما عنهم، ولكن حتى ذلك الحين أو الوقت تبقى المساءات والأيام ثقيلة ثقل الصورة القاتلة لطفل وأنت تجلس على أريكتك المريحة في غرفتك المكيفة وأمامك صحن من البطيخ البارد جداً وهو، أي ذاك الطفل، كان قبل لحظات يركض بحثاً عن قطعة خبز أو قطرة ماء أو أي أمل لحياة ما بعد الإبادة، حتى طاردته صواريخهم الذكية لتنهي حياته الصغيرة جداً أمام أنظارنا، كلنا نعم كلنا دون استثناء إلا لمن أراد البعد عن الصورة القاتلة مدعياً أن «أعصابه» أو «أعصابها» لا تحتمل هذه المشاهد في حين يستمر هو أو هي في مضغ الهمبرغر الدسم مع رقاقات البطاطس والذي منه.
متعبة المساءات التي يسود فيها الصمت فتتساقط الصور تباعاً للأحرار هناك ولكثير من «الإمعات» هنا، هذه مساءات دون أحلام بل كثير من الكوابيس الواقعية القادمة من فلسطين.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية