ذكريات طفولة... حلم تحرير «الأقصى»

نشر في 10-07-2024
آخر تحديث 09-07-2024 | 20:19
 د. محمد المقاطع

هل يمكن نزع طفل عن ذكريات طفولته وحرمانه من زمنها ومكانها وأحداثها؟! أليس من حقه أن يتعايش مع أحداث طفولته؟!... لا جدال في أنه لا يُقدم على حرمان طفل من ذلك إلا مجرم انتُزعت الرحمة من قلبه، فهو يتلذذ بتعذيب هذا الطفل... وإليكم قصته:

في عام 1966، وحينما كان في سن السابعة، أخذته رحلة بصحبة عائلته الكويتية إلى أولى القبلتين وثالث الحرمين، إنه المسجد الأقصى، وقد طاف في باحته، وصلى مع مصليه، وعاش أحداث الإسراء ومعجزته وإمامة خاتم الأنبياء والرسل للأنبياء، وبعدها خرج مع أهله وسط زحام الناس، وإذ به يتبع امرأة تلبس عباءة سوداء وتضع طفلها الرضيع على كتفها ظانّاً أنها خالته، ولما طال به المشي خلفها هرول ثم نظر في وجهها، ويا لهول الصدمة، إنها ليست خالته، بل امرأة أخرى، وهنا دبّ الخوف في نفسه، فطفق يركض يميناً وشمالاً، باحثاً عن أمه، عن خالته، وعن أهله! أين هم؟ وأين ذهبوا؟ فلم يجد أحداً منهم، وأدرك أنه صار في عداد الأطفال الضائعين فأجهش بالبكاء، وإذا بشرطي من حرس الحرم القدسي يمسك بيده محاولاً تهدئته، وأخذ يطوف به متوسماً أن يتعرّف عليه أحد ممن يؤمّون هذا الحرم، وما هي إلا لحظة حتى تقدّم رجل في الأربعينيات من عمره، يرتدي اللباس الكويتي، مشيراً إلى أنه يعرف أهل هذا الطفل، وبعد حديث مطول وتدوين للبيانات، سار الرجل ممسكاً الطفل وبجواره ذلك الشرطي باتجاه إحدى البوابات الرئيسية، وإذ بزوجة هذا الرجل تلتقيهم، فتعرّف الطفل عليها وارتسمت على وجهه ابتسامة التفاؤل، وما هي إلا بضع دقائق حتى يشاهد الطفل أمه وهي تنزل من السيارة، فأفلت يده راكضاً نحوها، والشرطي والرجل وزوجته يحاولون اللحاق به، وخلال ثوانٍ كان الطفل بأحضان أمه والبكاء يتعالى من كليهما.

ومرّت سنة بعد عودة الطفل مع أهله إلى الكويت، حتى أذهلته أخبار أن الصهاينة دنّسوا بيت المقدس بعد اغتصابهم القدس، وصار يبكي متمتماً: يعني لن أتمكن من رؤيته مرة أخرى؟! ومرت سنوات ليبدأ دراسته الثانوية، وقد ظن أن تباشير تحرير القدس تحققت مع أخبار انتصارات حرب أكتوبر، فإذا صاعقة تهزّ كيانه، فالانتصارات تبعها مزيد من التوسع والتمكين للكيان الصهيوني المغتصب، وأطرق حزيناً مردداً: لا أمل في استرجاع القدس وزيارتها مرة أخرى!

ومرت سنوات أخرى، وإذا بالشاب يبدأ بفكّ شيفرات حمائم السلام المتواطئة بعد انكشافها بزيارة السادات لتل أبيب، وبعد سنوات شهد تصفية المقاومة الفلسطينية التي تم إجلاؤها من لبنان، ثم عايش مرحلة سياسات التطبيع مع العدو الصهيوني، التي صارت بضاعة الدول العربية، وأصبح الشاب أستاذاً جامعياً وحلم العودة إلى ذكريات الطفولة بالقدس يراوده، وتشاء الأقدار استضافته في تسعينيات القرن الماضي متحدثاً في إحدى الجامعات الأميركية عن القضية الفلسطينية، وخلالها وجّهت له إحدى الحاضرات السؤال التالي: متى تنتهي إراقة الدماء بين العرب والكيان الصهيوني المغتصب؟

فكان ردّه: لن ينتهي ذلك طالما هناك صاحب حق مسلوب من جهة ومحتلّ ومغتصب، فمظاهر السلام حقيقتها تحيُّن الفرصة لطرد المحتل من الأرض، ولذا مخطئ مَن يعتقد أن إراقة الدماء ستنتهي. وقد جاء «طوفان الأقصى» وثبت ما قاله في محاضرته، فلا سلام من دون تحرير فلسطين، وستكون المقاومة دائماً مشعل ذلك ووقوده.

وبقيت الذكريات تنتقل لأبناء هذا الطفل، وأنه لابُد له أو لهم من زيارة القدس المحررة، والصلاة في بيت المقدس، إعادةً لذكريات طفولته التي لا يمكن أن تُنتزع منه، قبل أن يدنِّسه الكيان الصهيوني المغتصب.

back to top