«الأفكار التي تتعرض للخيانة تنتقم لنفسها»
يذكر المفكر الجزائري مالك بن نبي بأن «الأفكار التي تتعرض للخيانة تنتقم لنفسها، والمجتمع الإسلامي يدفع اليوم ضريبة خيانته لنماذجه الأساسية فالأفكار حتى تلك التي نستوردها ترد على من يخونها وتنتقم منه».
نعم فإن الأفكار الفنية الصرفة حين نخونها تنتقم فوراً فبناء جسر على غير الأسس الفنية ودخول جريمة الغش سينهار معها الجسر فوراً، أما خيانة الأفكار الأخلاقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية فهي أفكار تنتقم على المديين المتوسط والبعيد لا محالة.
وبمفهوم المخالفة فإن الإخلاص لفكرة معينة يجعلها تطرح ثمارها المُشتهاة المرغوبة على أرض الواقع وتنبسط نتائجها الإيجابية على صعيد هذه الفكرة وإن شابت المجتمع السلبيات والتخلف على الصعد الأخرى وكان المنطق الحاكم للطبيعة والتاريخ بهذه الثمار يغرينا نحو تعظيم الإخلاص للأفكار على مختلف الصعد الحياتية، لذلك في تصورنا الإسلامي تتلابس المبادئ الأخلاقية مع بُنية الواقع المادي إلى درجة أن الظواهر المادية الخالصة مباطنة ومتشابكة في أسبابها مع قوانين الأخلاق والتقوى يقول الحق سبحانه: «وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا»، ويقول جلَّ من قائل: «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَىٰةَ وَٱلْإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم».
فالمطر ونبات الزرع في نظرنا ظاهرة مرتبطة بأسباب مادية لكن في تصورنا واعتقادنا الإسلامي هي أيضاً مترابطة سببيا بالموقف الأخلاقي والنفسي، نعم لا بد من الأخذ بالأسباب المادية لأن التقصير فيها أيضا يُعَد تواكُلاً لا اتكالاً مؤدياً إلى كف الظواهر المادية عن منح الإنسان ثمارها ونتائجها الإيجابية، وبناءً على هذا التصور نملك المعيار الصلب العميق والدقيق لمحاسبة أنفسنا لماذا نتخلف ويتقدم غيرنا، ولماذا نبقى نحن في حفرة التخلف والشقاء ويرتقي غيرنا ويخرج من حفرة التخلف والضنك الحضاري، فإذا أصبحت الخيانة للمبادئ والأفكار والأسس الفنية العلمية هي القاعدة الطاغية فماذا ننتظر؟ إنه انتقام الأفكار على المدى الفوري والمتوسط والبعيد. لا بد من التمركُز حول الأفكار الإصلاحية في كل شؤوننا بعد استئصال جذور الفساد، وأقول الجذور لا البثور والقضاء على خيانة الأفكار الفنية عبر الأخذ بالأسس الصحيحة والعلمية فنياً وعدم التقصير في ذلك، فمثال من واقعنا لو أردنا التقدم في قضية تعديل التركيبة السكانية والاستفادة القصوى في الطاقات الفنية والعملية الأجنبية فإننا يجب أن نستأصل جريمة الاتِّجار بالبشر وتجارة الإقامات وغيرها ونضع شروطاً فنية لقبول استقدام العمالة الأجنبية، فالمملكة العربية السعودية وضعت برنامج اختبار وفحص فني للعمالة الأجنبية لإثبات احترافيتها ومدى الانتفاع بها، أما عندنا فالمجال منفتح للعمالة الهامشية والعمالة الأمية وغير الحرفية إضافة إلى تجارة الإقامات، في حين في المملكة العربية السعودية تم إنهاء وجود الكفيل، وتكاملاً مع هذه الخطوات تمت السعودة وفرض قوائم تتزايد كل فترة بوظائف لا تشغلها إلا العمالة الوطنية، وتم ذلك بصرامة وبلا هوادة، ونجحت الخطوات الإصلاحية هناك أيما نجاح... أرأيتم كيف تتداخل الجوانب الأخلاقية بضرب الفساد مع الجوانب الفنية المتعلقة بالاختبار الفني للعمالة والأخذ بمبدأ السعودة، وخلق كل الحوافز للسعوديين لشغل الوظائف؟ لذلك فإن نسبة السعوديين لغير السعوديين 59% من جملة السكان في حين يشكل الكويتيون ما نسبته 32% من جملة السكان. وعوداً للقضية الـساسية في هذا المقال لا بد من استنفار كل الطاقات الوطنية المبدعة والاستفادة القصوى من الخبرة العالمية بنماذجها الناجحة في إطار عمل مخلص بلا فساد أو مصالح شخصية أو مراعاة لمستفيدين باختصار لا بد من الأخذ بالأفكار المتصلة بالأخلاق وبالأسس الفنية البحتة بكل قوة لمعالجة الوضع دون إبطاء ودون تهاون، وإلا فالانتقام في شكل قائمة سوداء من بطالة مقنعة للمواطنين بلغت 80% تستنزف كرواتب 11.8 مليار دينار سنويا، وإهلاكا للبنية التحتية والمرافق، وجرائم وأنشطة غير مشروعة وزحاما ومناطق عشوائية وغلاء إيجارات.