من صيد الخاطر: «غُدَّةٌ كَغُدَّةِ البَعِيرِ وَمَوْتٌ في بيْتِ سَلُولِيَّةٍ»
«غُدَّةٌ كَغُدَّةِ البَعِيرِ وَمَوْتٌ في بيْتِ سَلُولِيَّةٍ»، وقد يُقال: «أغُدَّةً كَغُدَّةِ البَعِيرِ وَمَوْتاً في بيْتِ سَلُولِيَّةٍ؟!»، مثلٌ عربي يُضرب فيمن يُصاب بخصلتين، إحداهما أشرّ من الأخرى، فإذا قيل أغدّ البعير فقد أصابه طاعون، أما سَلَول فهم أقلُّ العرب، وأذلهم، حتى إن أحدهم قال:
إلى الله أَشْكُو أننَّي بتُّ طَاهِراً
فَجَاء سَلُولي فبال عَلى رِجْلي
فقلت اقطعُوهَا بارَكَ الله فيكُمُ
فإنِّي كَريمٌ غيرُ مُدْخِلِهَا رَحْلىِ
وراء هذا المثل حادثة حصلت للرسول، صلى الله عليه وسلم. أما القول، فهو لعامر بن الطُّفَيْل، فقد قَدِمَ على النبي، صلى الله عليه وسلم، ومعه أَرْبَدُ بن قيس يريدان مقابلته وفي نيتهما الغدر به، فقال رجل: يا رسول الله، هذا عامر بن الطُّفَيل قد أقبل نحوك، فَقَال دعْهُ فإن يُردِ الله تعالى به خيراً يَهْدِهِ، وكان يَعْرِف عنه تماديه في الكفر.
أقبل عامر مُخادعاً، وقال مُخاطباً النبي: يا محمد ما لي إن أسلمت؟ قال: لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم، قال: تجعل لي الأمر بَعدَك؟ قال: لا، ليس ذاك إليّ، إنما ذاك إلى الله تعالى يجعله حيث يشاء، قال: فتجعلني على الوَبَر وأنت على المَدَر؟ أي أن يُولّى على البدو والرسول على الحضر، قال: لا، قال: فماذا تجعل لي؟ قال صلى الله عليه وسلم: أجعلُ لك أَعِنَّةَ الخيل تغزو عليها، قال: أو ليس ذلك إليَّ اليوم؟ وكان ذلك تحدياً وتهديداً سافراً للرسول.
كان عامر قد تآمر مع أربد بن قيس، بأن إذا رأيتني أكلمه فدُرْ من خَلْفه فاضربه بالسيف، فجعل عامر يخاصم رسول الله ويراجعه، فدار أربد خلف النبي يريد ضربه، فاخترط من سيفه شبراً، ثم حبَسَه الله تعالى، فلم يقدر على سَلِّهِ، وعامر يَحثّه ويُومئ إليه بأن اضربه.
التفت الرسول صلى الله عليه وسلم، فرأى أربد وما يصنع بسيفه، فقال: اللهم اكفِينِيهَما بما شِئت، فأرسل الله تعالى على أربد صاعقةً في يوم صائف صاحٍ فأحرقته. أما عامر، فولَّى هارباً، وهو يقول: يا محمد دعوتَ رَبَكَ فقتل أربد، والله لأملأنَّهَا عليك خيْلاً جُرْداً وفتياناً مُرْداً، فقال عليه الصلاة والسلام: يمنعُكَ الله تعالى من ذلك وابنا قَيْلَةَ، وهو هنا يقصد الأوس والخزرج.
لجأ عامر إلى بيت امرَأة سَلُوليَّة، ويُقال إنها امرأته، فلما أصبح ضَمَّ إليه سلاحه، وخرج وهو يقول: واللّات لئن أصْحَرَ محمد إلي وصاحبه، قاصداً ملك الموت، لأنفذنَّهما برمحي، إلا أن الله تعالى أرسل إليه ملكاً فَلَطَمه بجناحه، فأذرأه في التراب، وخرجت على ركبته غُدَّة في الوقت، أي في اللحظة، فعاد إلى بيت السَّلولية وهو يقول: «غُدَّة كغُدَّةِ البعير، وموت في بيت سلولية».
فعامر هذا، فارس قومه وأحد فُتَّاك العرب وشعرائهم وسادتهم في الجاهلية، لم تنفعه صيحاته الجاهلية، ولا فزعة جماعته، فقد عاد بِغُدّتَهِ راكباً جواده الذي مات على ظهره، بسبب غُدَة طاعون لا تصيب إلا البعير. وأما قوله: «غُدَّةٌ كَغُدَّةِ البَعِيرِ وَمَوْتٌ في بيْتِ سَلُولِيَّةٍ»، فقد أصبح مثلاً يُطلق على مَنْ يُبتلى بِشرَّين لا خلاص منهما.