عيرتني بالشيب *
نتفهم أن هناك جيوشاً إلكترونية تملأ فضاءات كل وسائل التواصل، وتنشر كثيراً من سمومها، فهي كالجيوش المؤججة بالأسلحة «الذكية» وغيرها من أسلحة الإبادة، كلها جيوش للهدف نفسه، كثير من الموت على تنوعات الموت، فهو ليس بمذاق ولون واحد.
ونعرف أنها تطارد بعض من لهم متابعون أو مهتمون أو حتى يثيرون الفضول، ونعرف أنها، أي الجيوش الإلكترونية، كالجيوش بالأسلحة البالستية عليها أن تلتزم شكلا من أشكال النظام أو المؤسساتية، إلا أن جيوشهم الإلكترونية تبدو في الكثير من الأحيان غبية أو ربما «عبيطة» أو «هبلة» أو حتى لا تفهم الشعوب والفئات التي تخاطبها أو تستهدفها، فالكلمة أو التغريدة كالقذيفة لها هدف محدد، وإذا لم تصب الهدف واستباحت كل من حوله فهو أمر مفيد بالنسبة لهم حتى لو سموه «أضراراً جانبية» أو «كولاترل دامج»!!
الكل يغني في تغريداته على ليلاه، وهذا ليس عيباً، بل ربما هو صفة فقط، ولكن أن تبقى تلك الجيوش الإلكترونية أو ذاك الجندي البائس فيها وهو يطارد كل من ينشر خبراً أو صورة لاعتصام هنا أو مسيرة هناك، حينها ينهض كل المتربصين لهدف واحد لا ثاني له، وهو الاستهزاء بالمسيرة أو الاعتصام وتصويرها على أنها تجمع في «زقاق» لا يمر به أحد، وربما يكون هو كذلك لأن ذلك ما سمحت به السلطات الرسمية، أو أنه تجمّع لفئة من «المسنين»!!!
ويستمر ذاك الجندي الصغير جدا في مطارداته واستفزازته في محاولة للقول إن كل ما تقومون به ضد المجزرة، بل حرب الإبادة على الأطفال، ما هو سوى صرخة في البرية لمجموعة من «العجزة»!! وتعجب أنت فيما كثير ممن يسميهم هذا الجندي البائس بالمسنين يملؤون شوارع مدن أوروبية وأميركية، بل جامعات عريقة، رافعين الصوت منددين بالإبادة التي قاموا بدراستها بشكل معمق وتدريسها لطلابهم في محاولة لما يعرف بالاستفادة من التاريخ وعدم تكراره.
يبقى ذاك الجندي الإلكتروني البائس يطارد من يسميهم مجموعة من «العجزة»!! غير متابع لما يجري في العالم من إعادة الاعتبار لكبار السن الذين يقدمون رغم ضعف الجسد كثيراً من الخدمات لمجتمعاتهم، إما بنشر الوعي أو المساهمة في تفسير الظواهر، أو في الوقوف مع الحق كجزء من مساهماتهم في ترسيخ قيم الأخلاق في عالم لم يعد للأخلاق والأعراف أية قيمة!!
يعاير ذاك الجندي الإلكتروني البائس الذي لا يملك حتى حق تعريف نفسه وتنتهي أهميته إذا ما فعل ذلك ككل الجبناء واللصوص والمختلسين وتجار المخدرات المختبئين في أقبية المباني أو بين مبانيها الفاخرة متنكرين بملابس العفة والنزاهة، يعاير الشاب المتقد بمحبة أرضه الواقف عند حافة الكون وهو يردد للحق مطالبين أكثر، أما الظلم فليس له أتباع أو ربما بعض المرتزقة!! يعايره بأنه مستمر في الاعتصام أو تنظيم المسيرات للدفاع عن فلسطين وشعبها منذ أكثر من 10 أشهر، فماذا يقول غير أنك تعتصم في شارع فرعي مقفر، وهو يعرف تماماً أنه ومن معه هم من منحوا التصريح محددين الشارع والمسار، ثم يردد وكلكم مجموعة صغيرة من كبار السن، بالطبع هو لا يسميهم إلا بتسميات تليق بجندي بائس يختبئ خلف شاشة واسم مستعارين، ألم يصرخ ذاك التونسي قبل أكثر من أربعة عشر عاما «لقد هرمنا... بن علي هرب»، ثم دوت صرخته في بقاع الأرض من المحيط إلى الخليج عابرة النهر العظيم؟
يذكرني هذا البائس بقصيدة الخليفة العباسي المستنجد بالله يوسف بن محمد المقتفي (الخليفة العباسي الثالث والثلاثون في ترتيب خلفاء بني العباس، وهو ولد في بغداد عام 1124 وعرف بالعدل والذكاء والحزم) والتي تغنى بها واحد من أهم وأروع المبدعين العراقيين الفنان ناظم الغزالي في الخمسينيات من القرن العشرين وهي تقول «عيرتني بالشيب وهو وقار ليتها عيّرت بما هو عار».
بعض الجنود الإلكترونيين أو ربما كلهم، وكثير من كتّاب العرب المتصهينين وغيرهم، هم كما الجنود في جيش الإبادة الصهيوني لا يجدون مضرة في الانحطاط إلى قاع البشرية، حيث ستترك لهم مساحات في كتب التاريخ الحق وليس المزور بأموال هنا وصواريخ هنا.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.