أقسم بالله أنني أتردَّد وأشعر بحزن كلما أردت إبداء رأيي حول ما يحصل من جرائم صهيونية، وعن المتسبِّب بها، لكن ماذا نقول، وقد ظهر علينا إسماعيل هنية من قطر الشقيقة متهندماً ببدلته على الطريقة الإيرانية، وأخرى بـ «دشداشة خليجية»، مُبتسماً ورافعاً علامة النصر، وخلفه صورة مؤلمة لأنقاض غزة المدمَّرة، فعلامة النصر علامَ؟ والابتسامة على ماذا؟ هل على مَسحْ غزة من الوجود؟ أم على تهجير أهلها كما أرادت إسرائيل وخطَّطت؟ أم لأنكم لا تزالون ترفلون بصحتكم وعافيتكم؟
قلناها، ونعيد قولها: هذا العناد القاتل المتعمَّد هو الذي أودى بحياة عشرات الآلاف، وهو الذي دمَّر غزة بمنهجية متعمَّدة، وهو الذي أفرغ غزة من سكانها. علامة النصر التعيسة هذه ذكَّرتنا باحتفالية حسن نصرالله الأتعس بنصره الإلهي، فقلنا وقتها: «إذا كان هذا نصراً، فكيف إذاً الهزيمة؟». ويبدو أن النصر عند «الثورجية» هو سلامة قادتها.
ما حصل لغزة، التي كانت جميلة، جريمة كبرى، يتحمَّل وزرها مَنْ تسبَّب بها، ومَنْ حرَّض عليها، ومَنْ هلَّل وصفَّق لها. والمؤسف أن هناك تعتيماً إعلامياً يَكْتم صيحات المكلومين والثكالى وضحايا غزة، وهناك إرهاب حقيقي لمن يرفع صوته ضد عناد «حماس»، الذي لم ولن يؤدي إلا إلى ما أرادته إسرائيل حرفياً.
عند بداية عملية «حماس» في أكتوبر كان رد الفعل الإسرائيلي عنيفاً ووحشياً، وكأنها كانت تنتظر ذلك اليوم بفارغ الصبر، فكان أول تصريح لها هو وجوب إفراغ غزة من أهلها، ولتحقيق ذلك بدأ قصف جوي وحشي غير مسبوق على مناطق محدَّدة، ليجبرهم على النزوح تدريجياً نحو الجنوب.
فليس في وارد إسرائيل أن تكتفي بمحاربة «حماس»، فـ «حماس» ليست إلا طُعما، لكن «حماس» فهمت المؤامرة غلط، فقد تقدَّمت بمطالب ليست مُتاحة لها، فهي تريد إطلاق أسراها، وتريد وقف إطلاق النار، وتريد انسحاباً إسرائيلياً، وتريد بقاءها مهيمنة على غزة، وهذا لن يكون، فإسرائيل تواصل قصفها الممنهج بلا توقف مُستغلةً عنادها، والنتيجة المزيد من الدمار والمزيد من النزوح.
السؤال الآن، وقد دُمرت غزة، وأُجبر معظم أهلها على هجرها: ماذا لو وافقت إسرائيل بعد أن حققت ما تريده؟ ماذا لو وافقت إسرائيل الآن على وقف القصف؟ وعلى إطلاق سراح أسرى «حماس» مقابل إطلاق أسراها؟ هل سيتسابق القادة على رفع المزيد من علامات النصر؟ بعد أن احتُلت غزة، بدلاً من تحرير فلسطين؟ فكل ما سيحصل أن إسرائيل ستطلق عدة مئات من الأسرى مقابل إزهاق أرواح أكثر من 40 ألف بريء، وأضعاف أضعافهم من الجرحى والمعاقين.
التجرُّد من العواطف صعب، والأصعب منه الجهر بالحقيقة، لأنها مُرَّة، لكننا نقولها ونحن نشعر بالمرارة، كمواطنين عرب تشرَّبنا منذ طفولتنا حُب فلسطين، إن ما حصل لغزة ما هو إلا مؤامرة عظمى خُطِّط لها منذ سنوات بسيناريو واضح لا لبس فيه، فقد اغتيل أحمد ياسين، وتبعه اغتيال خليفته عبدالعزيز الرنتيسي، وعندها توقف اغتيال مَنْ خلفهما، لأنهم قاموا بفصل غزة عن فلسطين، وتحويلها إلى إمارة حماسية. وفي 7 أكتوبر 2023 بدأ استكمال السيناريو، باحتلال غزة، وإفراغها من أهلها، وسنرى قريباً، وبوضوح، ما قصده المجرم نتنياهو عندما قال: القتال لن يتوقف حتى تحقيق كل أهدافنا.
فليفرح مَنْ هلَّل وكبَّر، وليرفع إصبع النصر مَنْ عاند وكابر، فأودى بغزة وأهلها، فلم تنفع غزة لا خطابات الرثاء والتنديد، ولا التظاهرات الصاخبة، فإسرائيل المحمية، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، من الغرب، لن تتوقف عن حربها حتى تُحقق كامل أهدافها، حتى لو أُطلق سراح أسراها، فقد وقعت الفأس في الرأس.