عهد جديد من التشابك والتداخل في الاختصاصات والمهام الوظيفية
هناك أمر يثير فضول الإنسان حول العدد المتنامي لإنشاء الهيئات والمؤسسات والمراكز واللجان العليا الحكومية خلال السنوات العشر الماضية، بدون أن تكون هناك رؤية ونظرة شاملة ومتكاملة لمهامها وأهدافها، مما يجعل الدولة تعيش عهدا جديدا من التداخل والتشابك بالاختصاصات والمهام في الجهاز التنفيذي للدولة، ويزيد التكلفة العامة في الوقت الذي تتجه فيه دول العالم المتقدمة إلى انتهاج إعادة الهيكلة والرشاقة Restructuring and Downsizing في الأجهزة الحكومية!
ومما يزيد حيرة الإنسان تذمر وشكوى المسؤولين أنفسهم عن إنشاء هذه الهيئات والمؤسسات من ارتفاع تكلفة الجهاز الحكومي ومن عملية التشابك والتداخل في الاختصاصات، والمهام بين الوزارات والهيئات والمؤسسات والمراكز والأجهزة الحكومية!
ويرى بعض المتخصصين أن السبب هو عدم وجود رؤية استراتيجية واضحة ومحددة للجهاز التنفيذي للدولة، وأن دور ومهام المسؤولين الحكوميين والمستشارين أنفسهم قد تغير بسبب تغير موقعهم الوظيفي في السلطة التنفيذية وما تفرضه الظروف والمستجدات والعلاقات والمصالح الشخصية المتجددة مع الموقع الوظيفي الجديد!! فهؤلاء المسؤولون والمستشارون يلبسون عدة قبعات حسب ما يمليه عليهم المتنفذون وما يتناسب مع الظروف ومصالحهم الشخصية والوقتية!
وقد ازدادت ظاهرة وفلسفة التحول نحو إنشاء الهيئات والمؤسسات الحكومية خلال السنوات القليلة الماضية وتوجه السلطة التنفيذية إلى إلغاء بعض الوزارات وتحويلها إلى هيئات أو مؤسسات حكومية، وقد بررت السلطة التنفيذية هذا التوجه بسبب كثرة عدد الوزارات وزيادة العبء السياسي الذي يقع على السادة الوزراء، حيث إنه يسند لأغلب الوزراء حقيبتان وزاريتان في أغلب التشكيلات الحكومية مما يزيد مسؤولياته الإدارية والسياسية.
ورغبة في إعطاء بعض الجهات الحكومية استقلالية مالية وإدارية والتخلص من بعض التبعات الدستورية فقد تم تفكيك بعض الوزارات وتحويلها إلى هيئات أو إدارات أو مؤسسات حكومية، ومثال ذلك تحويل وزارة الصناعة إلى الهيئة العامة للصناعة ووزارة الإسكان للهيئة العامة للإسكان ووزارة الشباب للهيئة العامة للشباب ووزارة التخطيط للأمانة العامة للتخطيط والتنمية وغيرها.
واللافت للنظر خلال السنوات الماضية هو تفريخ العديد من الأجهزة والبرامج والهيئات في الوزارة الواحدة أو على مستوى الدولة بدون رؤية استراتيجية واضحة ومحددة أو وجود دراسات إدارية وتنظيمية وقانونية وهيكلية رزينة قبل إنشاء هذه الجهات والمؤسسات الحكومية، مما نتج عن ذلك دمج بعضها أو إلغائها بعد فترة زمنية، مثال ذلك الهئية العامة للقوى العاملة، وبرنامج إعادة الهيكلة، والجهاز التنفيذي للدولة، وبرنامج المشروعات الصغيرة، والهيئة العامة للغذاء والتغذية، والهيئة العامة للإعاقة، والهيئة العامة للاتصالات وتقنية المعلومات، والهيئة العامة للشباب والرياضة، والهيئة العامة للطرق والنقل البري بالإضافة لاستحداث العديد من الأجهزة الإدارية والرقابية على مستوى الدولة، مثل جهاز المراقبين الماليين وجهاز متابعة الأداء الحكومي ومراقبي شؤون التوظف، والهيئة العامة لمكافحة الفساد، وهيئة أسواق المال وغيرها الكثير.
ويرى المؤيدون لهذا التوجه أن ذلك سيؤدي إلى زيادة كفاءة وفعالية أداء هذه الهئيات والمؤسسات والجهاز الحكومي بشكل عام، وفِي الجانب الآخر يرى بعض المتخصصين في مجال التنظيم والإدارة أنه بالرغم من صحة هذا التوجه في بعض الأحيان فإن هذا التوجه قد نتج عنه نتائج مخالفة لأهدافه، حيث تضخمت الهياكل التنظيمية، وزادت الأعداد البشرية في هذه الهئيات والبرامج، ولم ينتج عنها زيادة في كفاءة وأداء هذه الهئيات، بل زادت تكاليف المصروفات الإدارية والمالية، وتعددت الإجراءات الإدارية، مما نتج عنه طول الدورة المستندية وتعقد الإجراءات وزيادة التداخل والتشابك في الاختصاصات بين الوزارات والهيئات والأجهزة والإدارات والبرامج التي تم استحداثها!
نعم كان الهدف الرئيس هو إعادة هيكلة الجهاز التنفيذي للدولة بهدف تقليص المصروفات المالية، وتقليل حجم الجهاز التنفيذي للدولة Restructuring and Downsizing (Doing with Less) وتبسيط الإجراءات الحكومية ولكن مع الأسف لا طبنا ولا غدا الشر! لأننا لا نزال نفكر ونخطط وننفذ ونتابع ونراقب ونقيم بالنهج والأسلوب الحكومي القديم نفسه بالرغم من تغير الشكل التنظيمي والوضع الإداري والتقني والقانوني لهذه الهيئات والأجهزة الحكومية!
لذا أرى أن الحل ليس في تحويل الوزارات إلى هيئات أو مؤسسات أو أجهزة حكومية فقط، بل في تغيير النهج والاُسلوب التنظيمي والإداري الذي تدار به هذه المؤسسات والهيئات المستحدثة وتغييرالعقلية القيادية التي تقودها مع أهمية إيجاد رؤية استراتيجية واضحة للدولة، وأهمية وضرورة تنيسيق وتكامل الأهداف الاستراتيجية للمنظومة الحكومية ككل، بالإضافة إلى ايجاد نظام كفء للرقابة والمتابعة والتقييم والتقويم المستمر لأداء هذه الهيئات والمؤسسات بشكل خاص وأداء الجهاز الحكومي بشكل عام.
ومن الأمور اللافتة للنظر تنقل عدد محدود من المستشارين والقيادات الحكومية من وظيفة حكومية إلى وظيفة أخرى ليس لها علاقة بالمؤهلات العلمية والخبرات العملية للقيادي! مما يثير الشك والريبة في أن من يقود هذه الهيئات والمؤسسات والمراكز واللجان العليا ليست القيادات التي يتم تعيينها شكلياً بل هناك قيادات مستترة لا تملك الخبرة الإدارية والتنظيمية والقانونية تدير هذه الهيئات والمؤسسات بالنيابة والوكالة عنها!
فإلى متى سنظل نعيش هذه الضبابية في إدارة الجهاز التنفيذي للدولة؟ وإلى متى ستستمر عملية إدارة الجهاز الحكومي بأسلوب الوكالة والإنابة والشكلية؟! ومتى سيتم إسناد مهام الجهاز الحكومي للشباب الكويتيين الذين يملكون التأهيل العلمي المناسب والخبرات العلمية الملائمة لطبيعة عمل هذه الهيئات والمؤسسات والأجهزة والمراكز الحكومية المتخصصة؟! ولا يمنع الأمر من مشاركة المتخصصين وأصحاب الخبرات النادرة في هذه المهمة الوطنية الاستراتيجية.
لقد عانى البلد غياب الرؤية الاستراتيجية لإعادة هيكلة الجهاز التنفيذي للدولة وقد حان موعد التغيير والتطوير والإصلاح.
ودمتم سالمين.