«منشية بنسلفانيا!»

نشر في 17-07-2024
آخر تحديث 16-07-2024 | 20:02
 د. بلال عقل الصنديد

يبدو أن القدر يرتب حظوظاً جيدة لمصلحة المرشح للانتخابات الرئاسية الأميركية دونالد ترامب تسهم في رفع نسبة مؤيديه في استطلاعات الرأي وتقرّبه من حسم الفوز مبكراً.

فقد سبق أن خدمه شعبياً تحريك الملفات القضائية ضده مع حُسن استخدام ذلك من فريقه الإعلامي لتظهير صورته كضحية للتآمر السياسي والتواطؤ القضائي، ومن ثم خدمه الوضع الصحي المتراجع للرئيس الحالي ومنافسه بالانتخابات جو بايدن، صاحب الهفوات المتكررة والمتزايدة، ومن ثم تأتي محاولة الاغتيال التي تعرّض لها ترامب أثناء إلقاء خطاب في تجمّع انتخابي حاشد في ولاية بنسلفانيا بتاريخ 14/ 7/ 2024.

وكالعادة، فإن نظرية المؤامرة حاضرة في أذهان الكثيرين ممن يؤمنون بها في العالمين العربي والغربي، إذ يقتنع البعض بأن الحملة الانتخابية للرئيس ترامب وأجهزة العمل السريّة هي المسؤولة عن تخطيط وتنفيذ محاولة لاغتيال مزعوم ينجو منه ليصبح أقوى وأشرس. ويكاد المرء يصدّق ذلك إذا تمعّن في تعابير وجه ترامب وكلماته القليلة الانفعالية التي رافقت قبضة يده المرفوعة تحدياً للمتربصين به وتحفيزاً لمناصريه! إلا أن تصديق نظرية المؤامرة سرعان ما يتلاشى بعد رؤية الدماء تسيل على وجهه ناجياً بفعل أعجوبة انحراف الرصاصة عن وجهه ملليمترات قليلة!

ولحسن حظ الرئيس «الضحية» أن التاريخ ربما سيذكر لاحقاً «منشية بنسلفانيا» لا «منصتها»، إذ كان لمحاولة الاغتيال التي تعرض لها الرئيس المصري السابق جمال عبدالناصر في منشية الإسكندرية أثر إيجابي على مستقبله السياسي، في حين نجحت حادثة «المنصة» في إنهاء حياة الرئيس أنور السادات.

وعلى سبيل الاستذكار، تعرض رئيس الوزراء المصري آنذاك جمال عبدالناصر بتاريخ 26/ 10/ 1954 لمحاولة اغتيال فاشلة أثناء إلقائه خطاباً في ميدان المنشية بالإسكندرية بمناسبة إحياء ذكرى جلاء القوات البريطانية عن مصر، وقد كانت ردة فعله الأولية حماسية للغاية، إذ وقف مخاطباً الجماهير المحتشدة بعبارة «فليبق كلّ في مكانه...» مكرراً إياها بأسلوب يثير التفاعل والتعاطف، الأمر الذي ساهم في تثبيت صورته كزعيم رابط الجأش قوي العزيمة.

ورغم كل ما قيل حول غموض محاولة اغتيال ناصر، وعدم منطقية تفاصيلها بوجهة نظر معارضيه، فإن هذه الحادثة التي اتهم فيها بعض المنتسبين «لجماعة الإخوان المسلمين» أدت الى حلّ وحظر الجماعة واعتقال كثير من أعضائها وأنصارها، مما أزاح - بطريقة أو بأخرى - عائقاً سياسياً مهماً من درب «الضباط الأحرار» وطموحات أكثرهم نفوذاً وألمعهم حضوراً.

لقد كان لهذه المحاولة الفاشلة تأثير إيجابي كبير على المستقبل السياسي لعبدالناصر لا يقل شأناً عن تأثير «خطاب التنحي» الذي لامس فيه بتاريخ لاحق وجدان الجماهير المصرية والعربية من المحيط الى الخليج على أثر تحمله مسؤولية «نكسة 1967».

وهكذا، فإن حادثة بنسلفانيا ستؤثر حتماً في مسار الانتخابات الأميركية لمصلحة ترامب الذي سيستغلها ايجابياً وبشكل واضح لمصلحته محاولاً قلب صورته من شخص متغطرس غريب الأطوار الى ضحية مستهدفة بالسياسة والنار.

***

سواء نجح الديموقراطيون في استبدال مرشح آخر ببايدن أم فشلوا بذلك، يبدو أن الانتخابات الرئاسية الـ 60 في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية تتجه لمصلحة الرئيس السابق ترامب، ما لم تحدث مفاجآت غير متوقعة على الصعيدين القضائي والشعبي، وهنا يبدو السؤال مشروعاً ومنطقياً عن نسبة التغيير في السياسة الأميركية تجاه الملفات الداخلية والخارجية.

الواقع أن المتعارف عليه وجود استقرار نسبي في سياسة الإدارة الأميركية تجاه بعض الملفات المهمّة، ولا سيما تلك التي يربطها صنّاع القرار في الإدارة بالأمن القومي، وذلك مهما اختلفت أسماء وشخصيات الذين يشغلون «المكتب البيضاوي» ومهما انتقلت الإدارة بين الديموقراطيين والجمهوريين.

ورغم أن النظام الدستوري الأميركي هو الأشهر والأوضح من بين الأنظمة الرئاسية حول العالم، فإن صناعة القرار الاستراتيجي لا يتفرد بها الرئيس مع القلة من معاونيه ومستشاريه، بل يبقى الموقف من الملفات الكبرى والحساسة رهين موقف المؤسسات التي تحيط بالرئيس وتؤثر في توجهاته، ومنها: مجلس الأمن القومي، الكونغرس، وكالات الاستخبارات، لوبيات المال والسلطة.

إلا أن الأمر مع شخصية ترامب الاستثنائية، وخلفياته الاقتصادية والعقائدية قد يحتمل بعض التمايز، حيث أثبت تاريخ الرجل أن منطق الصفقات هو الذي يحكم سياساته وقراراته، الأمر الذي ينطبق على مقاربة إدارته لثوابت السياسة الخارجية الأميركية بشأن: الدعم المطلق للكيان الصهيوني، والخصومة الشرسة مع التنين الصيني، والهيمنة على القرار الأوروبي، وإبقاء الدولار عملة مؤثرة في حركة التجارة العالمية.

وعليه، فإن الحرب على غزّة الباكية يبدو أنها ستبقى مستمرة الى أن يتمكّن ترامب من الإمساك بزمام الأمور ليتفرغ لعقد صفقات سياسية على وقع حزام النار والضغط على أطراف النزاع، مرة مع رئيس وزراء الكيان الصهيوني أياً يكن منهجه أو مسماه، ومرة أخرى مع ايران وحلفائها بصرف النظر عن موقفه المتشدّد منها، مبدياً استعداده الدائم لـ «قبض ثمن» إبداء نوع من التراخي تحت وطأة وقف الدعم أو فرض العقوبات وتنفيذ ضربات عسكرية مؤثرة، على غرار ما فعل عندما اغتالت قواته قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني.

***

وأياً يكون مستقبل العالم والشرق الأوسط مع ترامب، فإن اسم هذا الثري الطامح والجامح يرتبط دائماً بمخاوف حقيقية من نشوب حرب أهلية أميركية، إذ كان للعنف والاضطرابات والمساس بثوابت الديموقراطية الأميركية حضور دائم في كل المراحل السياسية التي عاشها الرجل، أيام انتصاراته وأيام خيباته على حد سواء.

فعند فشل الرجل في تحقيق أي من طموحاته بالوسائل الديموقراطية، يستسهل تأجيج الرأي العام المناصر له ويدفعه للنزول الى الشارع في احتجاجات تأخذ طابع العنف أحياناً مما يعزز الانقسام العمودي في المجتمع الأميركي متعدد المشارب والقناعات.

يضاف الى ذلك أن أكبر وأهم وسائل الإعلام التي تسهم في تشكيل الرأي العام الأميركي تعادي ترامب في توجهاته، ولن تستسيغ في القريب المنتظر هذا التشتت غير المسبوق للحزب الديموقراطي والفوز الكاسح لرئيس لا يتردد في مناصبتها العداء.

الأخطر من كل ذلك أن يجنح ترامب نحو استغلال حادثة «منشية بنسلفانيا» ما بعد الانتخابات ليستغل منصبه الرئاسي في ملاحقة خصومه السياسيين بالحدّة نفسها لملاحقته قضائياً من قبلهم وبحرارة الدماء ذاتها التي سالت من وجهه المصاب.

* كاتب ومستشار قانوني.

back to top