مراجعة المشاريع السعودية... درس خليجي يُستحسن فهمه
جودة الإنفاق بعوائده على الاقتصاد لا بحجمه أو قيمته أو فخامته أو عالميته
• كبح الاستدانة وعدم المبالغة في الرهان على النمو من أساسيات نجاح «المدن الرأسمالية»
• الكويت لن تستفيد من أي درس لأنها لم تبدأ أو تحاول المراجعة والتعلم
سلّط التوجه الجديد الذي اتخذته المملكة العربية السعودية في مراجعة مشاريعها، عبر لجنة حكومية برئاسة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الضوء على واقع الرؤى والإنفاق والمشاريع والأهداف والنتائج في دول مجلس التعاون الخليجي خلال السنوات المقبلة.
فحسب التقرير، الذي نشرته «بلومبرغ» ونقلت أجزاء منه قناة العربية، فإن التوجه الجديد لرؤية 2030 للمملكة في المراجعة السعودية يتضمن خفضاً للإنفاق بواقع 20 بالمئة من القيمة المخصصة للعديد من مشاريع البنى التحتية والتطوير، وعلى رأسها المدينة الرأسمالية الأضخم في الشرق الأوسط (نيوم)، وفقاً للعديد من الاعتبارات، مثل التكاليف والآثار التضخمية والجودة، وغيرها.
الإنفاق على المشاريع والفعاليات يجب ألا يكون باذخاً مضاعفاً مقارنة بأي مشروع أو ملتقى مشابه بالعالم
حساسية النقد
ربما يكون من الضروري الاعتراف بأن الحديث عن المشاريع، بل والاقتصادات الخليجية، بات أمراً يكتنفه قدر عالٍ من الحساسية، بل حتى ضيق الهامش المتاح للتقييم والنقد، بناء على العديد من الاعتبارات، أقلها الوشائج الأخوية بين أبناء الإقليم وحكوماتهم، وصولاً إلى طبيعة العلاقات السياسية في المنطقة، لا سيما مع محدودية إمكانية أداء الجهات المستقلة ومؤسسات المجتمع المدني أدواراً في صياغة القرارات أو التأثير عليها، حتى إن كانت ذات طبيعة مالية أو اقتصادية... وهو أمرٌ يستوجب التعامل مع أي نقد أو ملاحظة لأداء الاقتصادات الخليجية بصورة أكثر مرونة وتقبلاً، خصوصاً إذا كان صادراً من أبناء الخليج العربي، وما يرتبط برؤيتهم وتقييمهم لمستقبل الإقليم.
ديون ورواج
وعطفاً على ما سبق، يمكن القول إن المراجعة السعودية لمشاريع الرؤية وتكلفتها بعد 8 سنوات من انطلاقها، وقبل 6 سنوات من موعدها، تحمل في طياتها مجموعة من الدروس التي يستحسن فهمها في إطار التوجهات الاقتصادية الجديدة في منطقة الخليج، لاسيما في دولها الغنية بالنفط، وتحديداً في أهمية عدم المبالغة بالرهان على الديون المتضاعفة لتحقيق النمو الاقتصادي أو تنفيذ المشاريع ما لم تؤدّ إلى نمو موازٍ أو ملموس في الناتج المحلي الإجمالي، فالعائد من الإنفاق على المشاريع لا يقاس بتكلفتها أو مساحتها، إنما بعائدها على الاقتصاد وحجمه وقدرته على تمويل نفسه وخلقه للوظائف وتنويع الخدمات.
مطلوب تحديد العناصر والمتطلبات التي تضمن أن يكون إنفاق مئات المليارات من ثروات أبناء المنطقة في مساره الصحيح
كذلك من المهم عدم المبالغة في الرهان على أن الرواج الاقتصادي في الخليج والعالم أمرٌ مستمر في التصاعد، بما يسهّل تسويق أي مشاريع ضخمة عقارية أو خدمية أو سياحية، فالاقتصاد العالمي بطبيعته، يمر بشكل عام، في تقلبات بمستويات النمو والتباطؤ والانكماش والتفاوت، خصوصاً وسط المخاوف المستقبلية التي تعبّر عنها مثلاً تقارير صندوق النقد الدولي بأن نمو الاقتصاد العالمي سيصل إلى 2.8 بالمئة بحلول عام 2030 أي أقل بنقطة مئوية كاملة من المتوسط التاريخي للنمو الاقتصادي، إلى جانب توقعات البنك الدولي بتباطؤ نمو الاقتصاد العالمي إلى 2.2 بالمئة بحلول العام نفسه، مع الأخذ بعين الاعتبار أن درجة تحديد مستويات النمو الاقتصادي لدول الخليج النفطية، ذات الرؤى الواسعة في الإنفاق والطموحات، مرتبطة إلى حد بعيد بأسعار النفط الخام ارتفاعاً أو انخفاضاً.
مدن رأسمالية
ولا شك في أن الحديث عن الرؤى في منطقة الخليج العربي يشمل بشكل أو آخر كل منتجي النفط الكبار فيها، بغضّ النظر عن مدى جدية توجهات بناء المدن الرأسمالية الضخمة أو تنفيذها، فالكويت تتطلع إلى مدينة الحرير، والسعودية إلى مشروعها الضخم «نيوم»، فضلا عن أن دبي في الإمارات بطبيعتها هي مدينة رأسمالية منذ نحو 50 عاماً، وقطر أيضاً تحولت منذ نهاية القرن الماضي إلى مدينة رأسمالية متكاملة، مما يستدعي تحديد العديد من العناصر والمتطلبات التي تضمن أن يكون إنفاق مئات المليارات من ثروات أبناء المنطقة في مسارها الصحيح.
قيمة الرؤى
فقيمة الرؤى الاستراتيجية المستقبلية لا تقتصر على مشاريع البنية التحتية الضخمة أو استضافة فعاليات عالمية، إنما بمدى ما تحققه من عوائد تُحدث إصلاحات لاختلالات الاقتصاد والمالية الخليجية، التي تتعلق بارتفاع درجة الاعتماد على النفط والغاز في إيرادات المالية العامة والرهان على الديون أو محدودية حجم القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي، أو طغيان تركّز القطاع العام في سوق العمل، أو الاختلال الواضح في التركيبة السكانية، وأحياناً خلق طلب وخدمات غير موجودة من خلال إقامة فعاليات كبرى، بالتالي الانشغال بتوفير العرض بكل تكاليفه وجهوده، وهي اختلالات متفاوتة بين دول الخليج النفطية، وتكاد تجتمع كلها في الكويت كاختلالات مزمنة تتعمق سنوياً مع غياب مبادرات الحل.
الحديث عن المشاريع والاقتصادات الخليجية بات أمراً تكتنفه الحساسية العالية مع ضيق الهامش المتاح للتقييم والنقد
فالإمارات مثلاً، لديها اختلال سكاني يصل إلى أن 85 بالمئة من سكانها وافدون، وتعرّض نموذجها الرأسمالي الأقدم في المنطقة لضربة اقتصادية كبيرة بالتوازي مع الأزمة المالية العالمية، ولم تستطع كياناتها التجارية والاستثمارية العملاقة أن تمول ديونها لولا تدخّل أبوظبي النفطية، كذلك الأمر نفسه مع قطر، التي تماثل الإمارات في نسبة الاختلال السكاني، بل إن تحولها الاقتصادي الذي قارب نحو 40 عاماً لم ينعكس في بيانات المالية والاقتصاد، فلا تزال قطر تعتمد على إيرادات الغاز بما يعادل 85 بالمئة من إيراداتها العامة، وتتركز 80 بالمئة من قوة العمل لديها في القطاع العام، أما السعودية التي أعادت النظر لمراجعة رؤيتها الاقتصادية، فقد تضاعف الدَّين العام بين عامي 2015 و2024 فيها نحو 7 مرات، وصولاً إلى 275 مليار دولار، بما يعادل ربع حجم الاقتصاد السعودي.
استفادة الكويت
وربما من الحصافة في هذا الإطار، لفهم حقيقة الرؤى وأهميتها وفائدتها، ألا يكون الإنفاق على المشاريع والبنى التحتية والملتقيات والفعاليات باذخاً مضاعفاً عن أي مشروع أو ملتقى مشابه في أي دولة بالعالم، سواء كان مونديال كرة القدم أو معرض إكسبو أو حتى إقامة مشاريع ثلجية ضمن البيئة الصحراوية الخليجية الحارة.
ومع المراجعة السعودية والدروس الخليجية، تبدو الكويت بعيدة عن التعلم أو الاستفادة من أي درس أو تجربة، فنحن عملياً لم نبدأ في تنفيذ رؤية حقيقية تقلل مخاطر المستقبل، ولم نضع حتى أساسياتها ومقوماتها، رغم أن حاجتنا إلى الإصلاح الاقتصادي كبيرة والمخاطر متزايدة.
مطلوب تحديد العناصر والمتطلبات التي تضمن أن يكون إنفاق مئات المليارات من ثروات أبناء المنطقة في مساره الصحيح
الحديث عن المشاريع والاقتصادات الخليجية بات أمراً تكتنفه الحساسية العالية مع ضيق الهامش المتاح للتقييم والنقد