جمال عبدالناصر هو أول رئيس مصري «قُح» يحكم مصر منذ آلاف السنين، فمصر المحروسة توالت عليها القوى المُحتلة من كل حدب وصوب، فتوالى عليها الحُكَّام من كل الأجناس والأقطار، ومنهم العبد الحبشي المملوك كافور الإخشيدي.

جمال عبدالناصر هو أول زعيم عربي عاش ومات وهو على المعاش، أي لم يمتلك لا مؤسسات مالية ولا عقارات، ولم يسرق لا درهماً ولا ديناراً، إلا أنه كان الزعيم الأكثر إثارة للجدل. كان يملك شخصية جذابة ومهيمنة فرضت احترامها على المستوى العالمي، لنزاهته ووطنيته. أثار في العرب، وحتى في غيرهم، روح القومية والتحرُّر من الاستعمار المهيمن وقتها على كثير من دول العالم الثالث عشر، لكنه من ناحية أخرى أودى بالاقتصاد المصري، الذي كان في يومٍ ما قبل تأميمه يضم الكثير من المؤسسات والشركات المصرية والأجنبية الناجحة، والتي كانت مزدهرة في عهد الملكية والاستعمار البريطاني، فقد كان الاقتصاد المصري وقتها في أوجّه وعنفوانه وقوته، كان معظم العرب مبهورين ويحلمون معه بالأمة العربية الواحدة، لكنه حلم لم ولن يتحقق في زمننا الأغبر هذا.

Ad

***

أما السد، فالمقصود به السد العالي، ووراء إنشائه مواقف غيَّرت مسار السياسة المصرية من عدم الانحياز إلى الميل للمعسكر الشرقي الشيوعي، بقيادة الاتحاد السوفياتي. فقد طلب عبدالناصر من أميركا وبريطانيا والبنك الدولي قرضاً لتمويل ذلك السد، وهو مشروع حيوي لمصر اقترحه سنة 1952 المهندس أدريان دانينوس اليوناني الأصل، المصري الولاء، لبناء سد ضخم في أسوان لحجز فيضان النيل السنوي وتخزين مياهه، ولتوليد طاقة كهربائية منه، إلا أنهم سحبوا تمويلهم بعد موافقتهم، استجابةً لرغبة بريطانيا، التي أرادت الانتقام من جمال؛ لرفضه تدخلها في الشأن المصري.

إلغاء التمويل الغربي دفع جمال إلى التوجه للاتحاد السوفياتي في عهد الرئيس خروتشوف، الذي وافق على الفور على تمويل إقامة السد، فهذا المشروع فتح الباب على مصراعيه للسوفيات لدخول الشرق الأوسط المُحتكر من الغرب الاستعماري، وكان تأميم قناة السويس من نتائج سحب التمويل الغربي لبناء السد، وتبعته حرب 1956.

***

أما «كليوباترا»، فهو اسم لباخرة مصرية جرت الأحداث حولها، فسُميت بمعركة الباخرة «كليوباترا». بدأت هذه المعركة في 13 أبريل 1960، فقد فوجئ طاقم الباخرة المصرية بمنع مجموعة من البحَّارة عمال الموانئ في نيويورك من تفريغها، وكانت تحمل 8 آلاف طن من القطن المصري طويل التيلة، وكان مقرراً لها أن تعود بشحنة قمح أميركي.

كان بن غوريون، رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها، وراء منع تفريغ الباخرة، فهو مَنْ طالب أميركا بمقاطعة السفن المصرية مقابل أن يُسمح للسفن الإسرائيلية بعبور قناة السويس، مستعيناً بالمنظمات الصهيونية التي مارست الترغيب والترهيب لتنفيذ رغبته.

طبعاً جمال عبدالناصر، القومي العربي، رفض الضغوط الأميركية والصهيونية، ورفض السماح بعبور السفن الإسرائيلية لقناة السويس، ولم يكتفِ بذلك، فقد كان يعلم بالتفاف الجماهير العربية حينئذ حوله وحول مصر، وكان خطيباً مفوهاً، ذا شخصية طاغية، وذا شعارات قومية رنانة ومحرضة بشكل واضح ومؤثر على الجماهير العربية المهووسة بخطاباته الجهورية.

قام جمال، بعد فشل كل الاتصالات السياسية الرسمية بين مصر وأميركا، بإلقاء خطاب مثير وحماسي شرح فيه ما جرى للباخرة «كليوباترا» على يد الصهيونية العالمية، فطالب عمال الموانئ العربية بالرد الفوري، فتمَّت فعلاً مقاطعة 21 ميناءً عربياً للبواخر الأميركية، رافعين لافتات تقول: لا ماء، لا طعام، لا وقود، لا شحن، ولا تفريغ. ومما زاد الضغوط على أميركا أن هناك موانئ غير عربية هدَّدت بالانضمام إلى المقاطعة.

أمام هذه الوقفة الحاسمة والتضامنية مع مصر، قرر رئيس نقابة عمال البحر الأميركيين بول هول إنهاء حصار الباخرة كليوباترا، مما أجهض الضغوط الصهيونية على النقابات الأميركية.

معلومات مهمة وشيقة، يجب على النشء العربي، والمصري على وجه الخصوص، أن يتعرَّف على أحداث تاريخية حصلت في وطنه، فحوَّلت مسار تاريخ المنطقة لسنوات طويلة قادمة، بسبب تدخل القوى الاستعمارية في شؤون الأمم، وبسبب هيمنة الصهيونية العالمية على النقابات والإعلام والمال في الدول الغربية، وتحديداً أميركا وبريطانيا.

وهناك مثل كويتي يقول: «قوم تعاونوا ما ذلّوا»، والحر بالإشارة يفهم.