ليسمح لي القارئ الكريم بداية بأن أذكر باختصاصات محكمة العدل الدولية، حيث تتمتع هذه المحكمة باختصاص قضائي يسمح لها بالفصل في المنازعات التي تنشأ بين الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، كما تتمتع المحكمة باختصاص استشاري يسمح لهيئات هذه المنظمة بالتوجه إلى المحكمة لطلب رأيها الاستشاري بخصوص مسألة قانونية، وأشارت لهذا الاختصاص المادة 65 من النظام الأساسي للمحكمة، حيث نصت على ما يلي:

1- للمحكمة أن تفتي في أية مسألة قانونية بناء على طلب أية هيئة رخص لها ميثاق «الأمم المتحدة» باستفتائها، أو حصل الترخيص لها بذلك طبقا لأحكام الميثاق المذكور.

Ad

2- الموضوعات التي يطلب من المحكمة الفتوى فيها تعرض عليها في طلب كتابي يتضمن بيانا دقيقا للمسألة المستفتى فيها وترفق به كل المستندات التي قد تعين على تجليتها».

كما أوضحت المادة 96 من ميثاق منظمة الأمم المتحدة الهيئات التي يحق لها طلب رأي المحكمة الاستشاري:

1- لأي من الجمعية العامة أو مجلس الأمن أن يطلب إلى محكمة العدل الدولية إفتاءه في أية مسألة قانونية.

2- ولسائر فروع الهيئة والوكالات المتخصصة المرتبطة بها ممن يجوز أن تأذن لها الجمعية العامة بذلك في أي وقت، أن تطلب أيضا من المحكمة إفتاءها فيما يعرض لها من المسائل القانونية الداخلة في نطاق أعمالها. ويجب أن نذكر أيضا، وقبل استعراض الرأي الاستشاري الأخير لمحكمة العدل الدولية، بأن المجموعة العربية في منظمة الأمم المتحدة استصدرت قرارا من الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبتاريخ 21/10/2003، بطلب رأي هذه المحكمة في الجدار العازل الذي تقوم إسرائيل بتشييده على الأراضي الفلسطينية.

وأدلت المحكمة برأيها الاستشاري، في 9/7/2004، والذي أكد مخالفة بناء الجدار الفاصل لقواعد القانون الدولي، ورأت أنه لا يمكن اعتباره دفاعا عن النفس ولكن دفاعا عن الاحتلال، وأكدت ضرورة وقف استكماله وإزالة ما تم بناؤه، وطالبت بتعويض الفلسطينيين عما لحق بهم من إضرار في الأراضي والممتلكات. وعزز قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي صدر لاحقا بتاريخ 20/7/2004 (صوتت عليه 150 دولة عضوة في الأمم المتحدة ومن بينها كل دول الاتحاد الأوروبي آنذاك، في حين صوتت ضده 6 دول وامتنعت 10 أخرى عن التصويت)، هذا الرأي وأكد على أهميته.

واعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 30/12/2022، قرارا جديدا طلبت فيه من محكمة العدل الدولية، وبالإشارة إلى المادة 65 من نظامها الأساسي، إصدار رأي استشاري يتعلق بالنتائج القانونية الناتجة عن سياسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن بينها مدينة القدس الشرقية، وما تقوم به من ممارسات وأعمال.

ولا بد من الإشارة إلى أن 52 دولة من الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة قدمت، وتمهيدا لصدور الرأي الاستشاري، دفوعا وحججا إلى محكمة العدل الدولية مبدية رأيها وموقفها من احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، وما أسفر عن هذا الاحتلال من نتائج قانونية واقتصادية واجتماعية وإنسانية مختلفة.

وقرأ رئيس محكمة العدل الدولية القاضي اللبناني نواف سلام، وفي بث مباشر، وبتاريخ 19/7/2024، الرأي الاستشاري للمحكمة، وسنستعرض نتيجة هذا الرأي في هذه الفقرات:

1- أكدت المحكمة بإجماع قضاتها بأنها مختصة للإدلاء بالرأي الاستشاري المطلوب منها.

2- قررت الإدلاء برأيها الاستشاري بالإجماع باستثناء صوت واحد، وهو صوت نائبة رئيس المحكمة من أوغندا.

3- من رأي المحكمة أنه غير مشروع استمرار وجود دولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وصوت لصالح هذه الفقرة 11 قاضيا، وصوت ضدها 4 قضاة من أوغندا، ورومانيا، وسلوفاكيا، وفرنسا.

4- من رأي المحكمة أن من واجب دولة إسرائيل وضع حد لوجودها غير المشروع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وذلك في أقرب فرصة، وصوّت لصالح هذه الفقرة 11 قاضيا، وصوّت ضدها 4 قضاة من أوغندا، ورومانيا، وسلوفاكيا، وفرنسا.

5- من رأي المحكمة أنه من واجب دولة إسرائيل التوقف حالا عن كل نشاط استعماري جديد، وعليها إزالة كل المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتم اعتماد هذه الفقرة بالإجماع باستثناء صوت واحد، صوت نائبة رئيس المحكمة.

6- من رأي المحكمة أن من واجب دولة إسرائيل إصلاح كل ضرر مادي ومعنوي أصاب كل الأشخاص في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتم اعتماد هذه الفقرة بالإجماع باستثناء صوت واحد، صوت نائبة رئيس المحكمة.

7- من رأي المحكمة أن من واجب كل الدول عدم الاعتراف بمشروعية الوضع الناجم عن الوجود غير المشروع لدولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن واجبها عدم تقديم أي مساعدة أو عون لاستمرار الوضع الناجم عن وجود دولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وصوّت لصالح هذه الفقرة 12 قاضيا، وصوّت ضدها 3 قضاة من أوغندا، ورومانيا، وفرنسا.

8- من رأي المحكمة أن من واجب المنظمات الدولية، ومن بينها منظمة الأمم المتحدة باعتبار غير مشروع الوضع الناجم عن الوجود غير المشروع لدولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وصوّت لصالح هذه الفقرة 12 قاضيا، وصوّت ضدها 3 قضاة من أوغندا، ورومانيا، وفرنسا.

9- من رأي المحكمة أن من واجب منظمة الأمم المتحدة، وبشكل خاص الجمعية العامة التي طلبت رأيها الاستشاري، وكذلك مجلس الأمن، دراسة أساليب محددة وإجراءات إضافية بقصد وضع حد في أقرب الأوقات للوجود غير المشروع لدولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وصوّت لصالح هذه الفقرة 12 قاضيا، وصوّت ضدها 3 قضاة من أوغندا، ورومانيا، وفرنسا. يُعزز هذا الرأي الاستشاري الجديد لمحكمة العدل الدولية قواعد القانون الدولي، ويؤكد الدور الهام والأساس والحيوي لهذه المحكمة بالسهر على احترام هذه القواعد وتطويرها حسب الأوضاع التي تمر بها العلاقات الدولية، وما ينتج عنها من مختلف المواقف والسياسات، هذا من ناحية، والأهم من ناحية ثانية، هو التأكيد على عدم مشروعية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة، وضرورة وضع حد له، وإزالة المستوطنات الإسرائيلية في هذه الأراضي والتي يُنظر إليها على أنها شكل من أشكال الاستعمار، كما من الواجب تعويض وإصلاح الأضرار المادية والمعنوية التي لحقت بسكان الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولم يفت المحكمة، أخيرا أن تضع على عاتق المنظمات الدولية، وفي مقدمتها منظمة الأمم المتحدة ومختلف هيئاتها واجب عدم الاعتراف بالأوضاع غير المشروعة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ولعل في هذا الرأي الاستشاري الجديد للمحكمة ما يساعد ويقوي عزيمة من يعيش في هذه الأراضي، وبخاصة أهل قطاع غزة، ونرى أيضا أن من واجب مختلف المنظمات في العالمين العربي والإسلامي العمل على نشر هذا الرأي وشرح مختلف فقراته من خلال ندوات ومؤتمرات ومنشورات نصرة لحقوق الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.

* أكاديمي وكاتب سوري مقيم بفرنسا.