وعد «السنوار»

نشر في 22-07-2024
آخر تحديث 21-07-2024 | 19:04
 د. بلال عقل الصنديد

ها قد مرّ على «طوفان الأقصى» أكثر من تسعة أشهر، ومازال المتحكّم بقرار الحرب رئيس وزراء الكيان الصهيوني على جبروته وإجرامه، واضعاً العراقيل تلو العراقيل، متشبثاً بآخر رمق من مستقبله السياسي ومطيلاً أمد الحرب بهدف تأخير دخوله المتوقع الى السجن.

وبغض النظر عن النزعة المتطرفة والمصالح الشخصية لـ«نتنياهو»، فإن الولادة العسيرة لوقف إطلاق النار يتحكم في مخاضها عدة اعتبارات ترتبط بالسقف العالي الذي لا يستطيع أي طرف من أطراف النزاع التراجع عنه كثيراً.

فإذا كان هامش التفاوض والتنازل ممكناً ومفهوماً على المستويين الأمني والسياسي، فليس باستطاعة فصائل المقاومة الفلسطينية- وحركة حماس تحديداً- تقديم تنازلات كبرى في ملف تبادل الأسرى، ذلك لأن تكلفة الحرب هي أكبر بكثير من ألا تثمر على الأقل نصراً معنوياً للفصائل المقاتلة يترجم واقعياً بتحرير عدد وازن من الأسرى الفلسطينيين وفي مقدمتهم أولئك القابعون في السجن ظلماً مدى الحياة. وفي المقابل فإن تداعيات الحرب على غزّة هي بلا شكّ كيانية على دولة الصهاينة، فالطوفان وما كشفه من عجز مخابراتي، وما حققه من اختراق أمني، وما لحقه من فشل واضح لجيش الاحتلال في حسم الحرب التي تعتبر الأطول في تاريخ الكيان الغاصب، كلها وقائع تجعل المفاوض الإسرائيلي يدور في فلك السؤال المحوري عن «اليوم التالي» والأثمان التي يمكنه تسديدها؟

وهنا تبدو الإجابة عن سؤال الـ«ماذا بعد!؟» واضحة، وهي قلق وجودي وخوف مستمر على مصير الدولة المحتلة، الأمر الذي سيتحكم لفترة طويلة قادمة في كثير من الخطط والقرارات الرسمية والفردية في الكيان الغاصب، وذلك بمقابل انتصار معنوي سيرفع لواءه أصحاب خيار «المقاومة المسلحة» رغم ثمنه الباهظ المتمثل بدمار شامل لقطاع غزّة ولمستقبل أهله، اضافة الى عشرات الآلاف من الشهداء والضحايا من الكوادر المقاتلة والمدنيين، مع خسارة «حماس» وحلفائها لأي إمكانية في الاستقرار مستقبلاً في حكم القطاع أو غيره من المناطق الفلسطينية المحتلة.

أما المحور المساند لـ«حماس» والذي ترتبط رؤيته الاستراتيجية وقراراته التكتية بـ«طهران» فلن يقبل -على الأقل في أدبياته السياسية والخطابية- الا بالتهليل لانتصار حركة «حماس» مهما كانت النتيجة على أرض الواقع، ذلك لأن السياسة الايرانية في المنطقة المستندة الى استراتيجية توسيع السيطرة من خلال الفصائل الموالية لها، لن تقبل بخسارة مُعلنة لـ«حماس» التي تشكل المدخل الأوسع لها إلى عقر دار الإسلام السياسي «السني»، مهما اختلفت معه بالعقيدة الدينية أو حتى بالتوجهات السياسية.

ولعلها مناسبة للتذكير بالموقف الغربي من جميع الاحتكاكات المباشرة الظرفية بين الجانب الإيراني من جهة والمصالح الغربية من جهة أخرى، حيث ينتهي الأمر دائماً الى تغليب لغة التهدئة وسلوك نهج الحوار على حساب منطق التصعيد العسكري والعدواة السياسية! وذلك ليس إلا تعبيراً واضحاً عن الاستراتيجية الأميركو-غربية اتجاه تقوية الإسلام السياسي «الشيعي» وغض النظر عن تمدده الاستراتيجي، ليشكل بؤرة قلق للإسلام السياسي «السني»، ولتبقى نار الصراعات -ولو الباردة- بينهما تهديداً دائماً لاستقرار الشرق الأوسط وسبباً مستمراً لربط التنمية والأمن في المنطقة بما يأتي من خارجها من دعم أو تدخل أو مشاركة.

وفي هذا السياق، تفهم خلفيات تشدد الموقف الأميركي حيال قيام جيش الاحتلال بتوسيع الحرب شمالاً نحو لبنان، وذلك رغم كل الدعم الأميركي المعلن لإسرائيل، ورغم مستوى العداوة المعلنة بين أميركا وحزب الله، فللغاز والنفط في الحوض الشرقي للبحر المتوسط تأثير في القرار الدولي، ولقوة حزب الله وزن ودور إقليميين، وللمصالح المتناقضة نقاط التقاء ظرفية عديدة.

****

لقد طال بالفعل مخاض إنجاز صفقة تبادل الأسرى التي من شأنها وضع حد ولو مؤقت للعدوان الصهيوني المتوحش والمتمادي على أهالي غزّة وجنوب لبنان... ولملف الأسرى الفلسطينيين في المعتقلات الصهيونية تاريخ طويل تمتد جذوره إلى فترة الانتداب البريطاني واعتداء العصابات الصهيونية على أصحاب الأرض بالمجازر حيناً وبالخطف أحياناً وبمصادرة المنازل وسلب الممتلكات بغية الترهيب، ولقد كان لصمود الأسرى ولنضالات ذويهم والمقاتلين من أجلهم دور بارز في إبقاء القضية الفلسطينية نابضة في صدور أصحابها وحيّة في وجدان المتعاطفين معها حول العالم.

وفي هذا السياق، تأتي محاولات الكيان الصهيوني الدائمة للضغط بورقة الأسر في محاولة منه لكسر عزيمة الفلسطينيين ولقبض الأثمان السياسية في مفاوضات التبادل، وفي هذا السياق أيضاً تقرأ الأرقام التي تبرزها تقارير «نادي الأسير الفلسطيني» التي تشير إلى أن حصيلة الاعتقالات التي تلت «طوفان الأقصى» في كل من الضفة الغربية وغزة قارب العشرة آلاف فلسطيني!

وبالعودة الى مسار الحرب على غزّة، ليس من الإنصاف تجاهل تضحيات حركات المقاومة أو التغاضي عن بسالة مقاتليها، وليس من المنطق المراهنة على تراجع حضورها الميداني بمقابل تزايد الغطرسة الصهيونية، إلا أن الواقعية تقتضي التسليم بأن النتائج الواضحة للحرب لا شك أنها ثقيلة الوقع على مستقبل حركة «حماس» وعالية التكلفة مادياً وسياسياً على غزّة ولبنان، وذلك مقابل نتيجتين رئيسيتين سيكون لهما وقع معنوي وتأثير استراتيجي.

النتيجة المباشرة «للطوفان» وما تلاه من صمود جبّار لأهالي غزة والمدافعين عنها، تتبلور بتلقي الكيان الصهيوني -لأول مرة بتاريخ وجوده- ضربة موجعة معنوياً ومادياً وعسكرياً، أما ثاني النتائج التي ينبغي تحقيقها مهما طال المخاض، فتتمثل بتسجيل حركة «حماس» انتصاراً معنوياً في ملف تبادل الأسرى، مما يمكّنها من تخفيف وطأة اتهامها بعدم توقع التكلفة الكبرى لـ«طوفان الأقصى» عند التخطيط له، وفي ذلك وجهات نظر مختلفة من أبرزها أن عذابات الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية والحصار الجائر للقطاع لم يترك مجالاً لاحتمالات أقل وقعاً وتكلفة من «الطوفان».

****

هكذا يفهم ما كشفه نبيه عواضة، الأسير اللبناني المحرر الذي رافق «يحيي السنوار» في معتقل عسقلان المركزي، عمّا قاله الأخير لحظة تحريره بموجب صفقة «وفاء الأحرار» عام 2011، اذ خاطب زملاءه الأسرى مودعاً إياهم بصوت مرتفع بعبارة «ما بكون أنا السنوار إذا لم أحرركم».

* كاتب ومستشار قانوني.

back to top