كنت في القدس*
بدأت الحكاية وكأنها مزحة وما لبثت أن تحولت إلى حوار في تفاصيل الرحيل وكيفية الدخول والوصول وتدحرجت اللحظة والكلام فكان أن قال لها «قرري الآن وإذا أردتِ الانضمام لهذه الرحلة مع جمعية السلام فعليك إرسال بياناتك سريعاً وإلا فلن تلحقي ولن يسجلوك».
أسرعت هي دون أن تلم بكل التفاصيل على غير عادتها، خصوصاً أن الرحلة فيها كثير من المخاطرة والمخالفات للقوانين بين بعض الدول، ملأت الاستمارة بكل التفاصيل، وبين كل سؤال وآخر كانت تتعثر فتعاود الاتصال بذاك الصديق للتأكد من أنها لن تضع ما يمكن أن يشكل عائقاً آخر، بعد الانتهاء أخذت نفساً طويلاً وجلست تتأمل وتراءت لها صور القدس وحيفا ويافا ورام الله، جرت نحو مكتبتها الخاصة، ونبشت الكتب حتى عثرت على روايات غسان كنفاني، وكثير بل كل محمود درويش، كانت مكتبتها مليئة بكتب وصور وحكايات فلسطين وخرائطها.
لم تمض سوى أيام وجاءها الرد، فهذه جمعية يابانية وهم، أي اليابانيين، معروفون بدقتهم وحرصهم على الوقت والتفاصيل ودقة تنظيمهم إلخ، إلخ، سعدت هي بقبولهم طلبها قبل أن يغلقوا باب التسجيل، وسعدوا بها لأنها عربية ولم يسجل كثيرون من العرب لأن الرحلة ككل سنة هي في مركب كبير يمر بعدد من الموانئ في مدن وبلدان تعيش اضطرابات، أو حروباً أو احتلالاً كما حال فلسطين.
بعد أن راحت السكرة وجاءت الفكرة كما يقولون تنبهت أن في جواز سفرها حينها، عكس الآن!! تعليمات واضحة وصارمة فمن يخالفها قد يتعرض للعقاب تحت طائلة القوانين المعادية لدولة الاحتلال والرافضة لبناء أي علاقات حتى لو كانت زيارة لفلسطين وللأصدقاء هناك من أول شجرة زيتون حتى شجرة التين تلك في تلك الباحة بالقدس، أسرعت في الاتصال بصديقها وكأنها المرة الأولى التي تخبره رغم أنه يعرف كل ذلك وقد أخبرها بأنهم لن يختموا جوازات سفرهم بل سيمنحوهم تأشيرة على ورقة فقط!!! قالت له ولكن ماذا عن الفلسطينيين كيف سيرون زيارتنا هذه؟ طمأنها أنهم يريدونهم هناك، كان كل ذلك قبل سنين من «الهرولة» نحو تل أبيب التي حصلت بعد ذلك بسرعة لم يتخيلها أحد.
كثير من الأفكار والقلق والتوتر رسمت ملامح أيام ما قبل وصولها إلى ذاك الميناء في البلد العربي المجاور، حيث رأت المعنيين من تلك الجمعية وكثير من الشباب المؤمن بنشر فكر السلام وتبني الحلول السلمية للنزاعات والصراعات الداخلية والحروب الخارجية، كانت تلك السنين شبيهة بالأفكار التي تحملها هذه الفئة من الشباب المتحمسين من مختلف بقاع العالم، كانت أوقاتا تشبه الأحلام السعيدة بسرعتها وتلاحق أحداثها.
تحركت السفينة من ذاك الميناء وما هي إلا ليلة أو أقل إلا وصديقها يناديها «انظري فلسطين» جرت هي إلى أعلى طابق بذاك المركب الضخم وقفت تراقب شاطئ فلسطين يقترب والمباني التي تبدو صغيرة تكبر ثم تكبر ثم تكبر حتى وقفت ولاصقت فلسطين، رددت على صديقها «هذه فلسطين صح؟ معقولة فلسطين؟ ابتسم هو ليقول: نعم، نعم، لماذا لا تصدقين وتقفين الآن دعينا نرى ماذا سيفعل المسؤولون الصهاينة في هذا الميناء عندما يرون بنتاً عربية بل هي من الخليج؟!». نزل جميع الركاب من دعاة السلام وجمعيات تنادي بالأعنف وغيرهم ومروا على مختلف الحواجز والإجراءات حتى جاء دورها، فجأة قال لهم ذاك الرجل وهو يتأملهم منذ دخولهم أرض الميناء ومكاتب الهجرة وغيرها «أنتم عرب من وين؟»، قدموا أوراقهم فانشغل هو أكثر بصديقها قائلاً له أهلي جاؤوا من بلدك، وما زالوا يتذكرونها بكثير من الحب!! ودار رأسه بعد محادثة مجاملة دون كثير من الطعم، بل كان واضحا أن صديقي يريد أن يخلص بشكل سريع من هذا الموقف والآخر يريد إطالة الكلام، أفرج عنا وما إن خرجنا من الميناء حتى تلقانا ذاك الصديق الفلسطيني الرائع وزوجته بالأحضان وفرح كبير، وهنا بدأت جولة من شمال فلسطين إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها ومن بحر يافا إلى أزهار حيفا، ثم أزقة القدس القديمة، راحت هي تبحث عن أعلى بقعة في القدس والصديق الفلسطيني لم يتوقف عن الحديث والشرح وتقديم المسخن والمقلوبة والفلافل ثم طبعاً الكنافة النابلسية وأحاديث النساء من الجدات إلى الأمهات والأخوات والبنات والحبيبات كلهن لأحاديثهن مذاق آخر مختلف عن كل النساء العرب، هن يتقن فن حب الأرض حتى العشق والتضحية من أجلها والوقوف حتى آخر قطرة عرق ودم حتى لا يرحلوا ولا يهجروا.
وللحكاية تفاصيل كثيرة لم تنته بعد ولا تزال رائحة أزقة القدس عالقة في الذاكرة وليس في الثياب فقط، ونسمة في مساء يطل على شوارعها المعتقة.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.