ثورة الكرامة العربية
لم تكن ثورة 23 يوليو 1952 حدثاً مصرياً داخلياً، ومع زعيم مثل جمال عبدالناصر ذي الكاريزما الاستثنائية التي يصعب تكرارها، أصبحت منذ يومها الأول حدثاً مفصلياً في التاريخ المعاصر سرعان ما راحت ارتداداته تعم الإقليم والعالم تباعاً.
أكتب هذه الأسطر حول الثورة وعبدالناصر، على الرغم من أني من جيل لم يعش تلك الحقبة التي كان عبدالناصر فيها يخوض معارك لا تتوقف في مصر وخارجها، في حين آذان ملايين العرب ترهف السمع لخطاباته التي تحرك الأحداث والتظاهرات في بلدان عربية عدة. استقيت معارفي عن عبدالناصر و23 يوليو من المرويات الشفاهية ممن سبقونا وأحبوه وأحبوا مصر والتفوا حول الثورة، ومع كل ما كتب عن 23 يوليو وعن عبدالناصر، مازال الكثيرون في مصر وفي دول أخرى يتذكرونه بخليط من حنين يشترك فيه محبوه ومنتقدوه على حد سواء، فمن يخوض المعارك مدافعا عن بلده وشعبه، فسيحظى باحترام رغم أي جدل حوله، ما إن نذكر اسمه حتى نسمع شهقة تصحبها زفرة ألم: «ما من أحد مثله» أو كما يقول المصريون بشيء من حسرة: «هو في زيه؟».
ستمضي حكايات الآباء هنا في الكويت لتروي كيف أن صوره مع أمير الكويت الراحل الشيخ عبدالله السالم الصباح كانت تتصدر مجالس أغلب المنازل والمحلات في الكويت، بل إن الكثير من مواليد الكويت الذكور في تلك الحقبة حمل اسم (جمال وعبدالناصر) تيمناً بهذا الزعيم، وعندما يقال إن «جمال سيلقي خطاباً الليلة»، كانت هذه الجملة كفيلة بأن تدفع الجميع للتسمر قرب جهاز الراديو والإنصات لكل كلمة ستخرج من فم جمال عبدالناصر وتستقر في وجدانهم.
كان لنا هنا في الكويت من عبدالناصر وثورة 23 يوليو الكثير ليروى، بل مصير كتب مبكراً، فبعد استقلال الكويت عام 1961، حرص الإنكليز على تعيين قنصلهم الموجود في الكويت ليكون أول سفير في الكويت المستقلة وعميداً للسلك الدبلوماسي فيها، إلا أن المغفور له الشيخ عبدالله السالم كان يصر على التأكيد على أن الكويت تعتز بعروبتها وتدعمها وحرصه أن يكون الأول عربياً، فما كان منه إلا أن يدعو مصر للاستعجال في إرسال سفيرها ليكون هو الأول، قبل أن تدخل الشقيقة المملكة العربية السعودية وتطلب أن يكون سفيرها هو الأول في الكويت المستقلة.
بعيد الاستقلال وعندما تصاعدت ادعاءات الرئيس العراقي الأسبق عبدالكريم قاسم، قام الشيخ عبدالله السالم بإرسال وفد إلى الزعيم جمال عبدالناصر برئاسة المغفور لهم الشيخ جابر الأحمد الصباح يضم عبدالعزيز الصقر ونصف اليوسف النصف ويوسف إبراهيم الغانم ر حمة الله عليهم، يحمل رسالة خطية منه، شرح فيها الشيخ عبدالله السالم الموقف وختمها بأنه على ثقة بأن الوفد سيجد منه التعاون والتوجيه بما يكفل حفظ الصف العربي، أما رد الرئيس عبدالناصر فقد كان صارماً وفورياً بثلاثة بيانات رسمية في 27 و30 يونيو وفي 5 يوليو 1961، تؤكد جميعها دعم مصر التام ووقوفها مع سيادة الكويت وحقها في الدفاع عن أراضيها وحدودها.
أعلم جيداً، أن الحديث يطول حول عبدالناصر و23 يوليو ما بين مؤيد ومنتقد لكنني أرى أن غياب التوثيق لهذه المرحلة مازال يحول بيننا وبين تكوين صورة وفهم أكثر وضوحاً وعمقاً لهذه الحقبة من تاريخنا، إلا أن المسار الذي اختطه عبدالناصر وما أنجزه في هذا المسار مثل تأميم قناة السويس والخروج منتصراً من العدوان الثلاثي الذي وحد الشعب وعزز مكانته الجديدة قائداً عربياً وعالمياً، ومجانية التعليم بما أحدثته من هندسة اجتماعية وسعت الفئات الوسطى وبناء السد العالي ودعم الصناعات والتصنيع المحلي، حولت هذه المنجزات القاهرة شمساً مشرقة للثقافة والفنون والعلم لكل أبناء الوطن العربي.
خلدت الكويت ذكرى عبدالناصر الطيبة ومواقفه المشرفة بإطلاق اسمه على أحد أهم شوارعها الرئيسة، ومازال شاهداً على هذا الوفاء له.
من القلب أكتبها، كل 23 يوليو ومصر والمصريين ونحن في الكويت بأمان وازدهار دوماً بإذن الله.