أتفق تماماً مع الرأي القائل إن على الفقراء ألا ينجبوا أولاداً، ولكن وفق تعريف الفقر الذي في خاطري لا كما يتوهم الآخرون، الفقر الذي أقصده ليس فقر المال، فهو يمثل جزءاً بسيطاً قد لا يُذكر من قصة الفقر، والفقر الأكبر هو فقر الأخلاق، وفقر الإنسانية، وفقر الفكر العميق والرؤية الواضحة، فهؤلاء الفقراء لما سبق يجب أن نحثهم حثاً كبيراً على عدم الإنجاب، ففقير وفقيرة الأخلاق لن تعطي المجتمع سوى فقر أخلاقي جديد يكمل مسيرة الإفلاس الأخلاقي السابق، وقد قيل فاقد الشيء لا يعطيه، والمجتمع أساساً، خاصة في العصر الحديث، يعاني جفافاً في منابع الأخلاق وبصورة مؤسفة جداً.

فقد علم حرث الخُلق وجف ضرع الحياء، ولا غيمة مروءة تمطر ولا مزون إنصاف وعدالة تهب، فلا أقل من حمايته من المزيد من الجفاف لعل وعسى أن يستبدل الله بغيومه مُزناً ماطرة تسقي تربة أخلاق المجتمع الجافة، فتزهر وتنبت وتوفر غذاء وثماراً جديدة لهذه الأرواح الجائعة والعطشى لمكارم الأخلاق، وفقراء الإنسانية المعدمون لن ينجبوا ويربوا سوى عدم جديد يلف بضبابه وجود شمس الإنسان، ويحيل نهار أمل الرحمة والشفقة ليلاً مظلماً تنعق به غربان القسوة والظلم.

Ad

فالإنسانية تحتاج إنساناً حقيقياً لا غراباً يغني على أطلالها، وفقراء الفكر والرؤية أيضاً لن يصدروا إلى سوق الأفكار والرؤى سوى بضائع مقلدة معيبة لا تعين بقاء حوار ونقاش، ولا تحمي وجهات نظر، بل تدفنها وهي حية بكم هائل من طين مستنقعات الغباء والتفاهة والسطحية، ورفض الآخر، والتعصب، وهؤلاء الفقراء بالذات يجب أن يمنعوا من الإنجاب أيضاً حفاظاً على الأقل على جودة وصلاحية الحياة الإنسانية من منتجات مصنع رديء ومخالف لكل شروط المنطق.

أما فقر المال فهو فقر بلا شك، لكنه مع هذا ملح الحياة، وبدونه تصبح مسيرة الحضارة ماسخة لا طعم لها، وتصوروا فقط لو منع إنجاب هذا الكم من النوابغ والعباقرة على مر التاريخ، وحرمنا من متعة مشاهدة بيليه ومارادونا الفقيرين جداً في مباريات كرة القدم كمثال، أو لم يمنح فارداي وأديسون وتسيلان ونيوتن الفرصة لتقديم اختراعاتهم البشرية بحجة أنهم ولدواء فقراء! أو لم تخرج أشعار عروة بن الورد والمتنبي وغيرهم للوجود لأنهم ولدواء فقراء، وكذلك آداب الجاحظ والعقاد وغيرهم الذين ترعرعوا في بيئة فقيرة، ومعهم فرق البيعة فكر سقراط وروسو.

تخيلوا بعدها الحياة والحضارة لو منع فقراء المال من الإنجاب بحجة الفقر وحرمنا من كل هذا الثراء الفكري والأدبي والعلمي وترك فقراء الأشياء الأخرى فقراء الأخلاق والفكر والإنسانية ينجبون كما يريدون، أي فقر مدقع يا ترى سيعيشه مسار التاريخ وتعيشه الحضارة الإنسانية حينها؟!