حلم طال مداه عاشته الأمة العربية والإسلامية لأكثر من مئة وخمسة وعشرين عاماً، وعشته أنا شخصياً خمسين عاماً منذ أن كنت في الخامسة عشرة، حيث بدأت في ذلك العمر أقلّب صفحات التاريخ وكتبه والأدب والعلوم وأتفحّصها.

أخذنا الحلم جميعاً عرباً ومسلمين، وأنا شخصياً، لمواقع وبلدان ومسارات عديدة، ظنّاً منّا أن ذلك الحلم هو طريقنا القويم للعلم والتمدن والعدالة والحضارة والإنسانية، لكننا كنّا قد تنكبنا الطريق القويم، ومازلنا، وسرنا في مسار نجهله ولا نعرف حقائقه وخفاياه المقززة والمنحطّة.

Ad

نعم، لقد انسلخنا عن كنهنا وهويتنا وديننا ومسارنا القويم حينما تخلّينا عن أصالتنا وجذورنا وثوابتنا وديننا وموروثنا الاجتماعي والثقافي والإنساني، وقلّدنا الغرب وأعلينا شأنه واتجهنا بمساره طوعاً أو تخطيطاً أو جهلاً أو قسراً.

وقد تداعت علينا الأحداث تترى، ولم تستيقظ أغلبيتنا من ذلك الحلم الوهمي، وتبنّينا شعارات وأطروحات الغرب الغادر المتآمر، كالديموقراطية وحقوق الإنسان والدساتير والمواثيق الدولية والأمن والسلم الدوليين والتعايش الحضاري والسلمي.

ونسينا أو غفلنا أو أرغمنا أو تآمرنا للسير في مسارهم، رغم أنهم مجموعة قراصنة وقطّاع طرق وتجار بشر وقتلة ومدمّري حضارات الأمم وقراصنة للكتب والآثار وممتهنين لكرامات البشر.

فقد نشأت دولهم وتربّت مجتمعاتهم على نهب الدول والأمم والحضارات وسرقة البشر والمتاجرة بهم من إفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية، وغيرها، ولا قيَم ولا أخلاق ولا مُثُل لديهم، والديموقراطية والحريات والقوانين فقط لهم ولتحقيق مآربهم، أما بالنسبة إلى غيرهم، ومنهم نحن، فالحقوق متلاشية والإنسانية منسية والعدالة والمساواة فقط في النظريات والكتب، ولا وجود لها على أرض الواقع، فنحن بالنسبة لهم من سقط المتاع.

واليوم تأتي أحداث غزة، بعد سلسلة أحداث على مدى قرن من الزمان، منذ وعد بلفور و«سايكس بيكو»، وتكريس الحروب والنزاعات الحدودية، والترويج لإسلام جديد تحت شعار محاربة التطرف والتزمّت، والإسلام السياسي الذي هو شعار اخترعه الغرب لنا، حتى أضحينا ضحلين وعبيداً لهم لا نساوي عندهم سقط المتاع، وهم في كل تلك الأحداث زيّفوا الحقائق والتاريخ، وتقاسموا عالمنا العربي والإسلامي كما يتقاسم قاطعو الطرق والقراصنة ما نهبوه من أموال ومعادن ومجوهرات، وهكذا أسقطوا دولة الخلافة، وتقاسموا دولها، وبثّوا فينا النزعة القومية، وأنشأوا الجامعة العربية حتى ندخل في خصام وقطيعة وحروب مع الدول الإسلامية، أو بالأحرى مع الإسلام نفسه، وحتى ننفصم عن هويتنا، وقد كان.

وأهّلوا أو دعموا أو شجعوا مَن يرفع تلك الشعارات حتى يجعلوا بأسنا بيننا شديداً، وقد كان. وها نحن نرى كيف تقسّمنا جزراً وكيف نهوي إلى الدرك الأسفل من قاع البشرية، وتزداد تقسيماتنا طائفياً وقبلياً وفئوياً، حتى صار ذلك هو نمطنا الذي يدفعه الغرب ويموّله، وصرنا نهرول وراء أسراب الديموقراطية وحقوق الإنسان والدساتير وغيرها، بينما نحن نتآكل من الداخل، وكل يوم نحن في حال أسوأ من التي قبلها.

وجاءت أحداث غزة لتكون فاضحة، ولكي تُسقِط أقنعة الغرب ومبادئهم وشعاراتهم عن الديموقراطية والحرية.

نعم، أسقطت كل أقنعة التآمر والغايات الدفينة للغرب الذي يعمل على محونا من الوجود.

نعم، أسقطت أقنعة القومية والإسلامية والوحدوية القومية، وبسقوط ورقة التوت انكشف الخونة وظهر المتواطئون والعملاء المخذولون والمنسلخون عن هويتنا تحت شعارات وبرامج وخطط زائفة غايتها خدمة الغرب المتوحش وغاياته، وقد كان.

لقد آن الأوان لأن نستيقظ من الحلم، ونتغلب على كل إجراءات غسل عقولنا والسيطرة عليها، حتى نوقف كل محاولات تزوير التاريخ والحقائق والوقائع، لنتولّى - بحق - إعادة كتابة التاريخ، وهي مرحلة جاء أوانها، ولإعادة برمجة أنفسنا بما يعيدنا إلى هويتنا وثوابتنا.

فهم واهنون وأضعف وأقبح مما نتخيلهم، وقد صاروا صدى للقبح والخبث الصهيوني والمتصهينين، الذي كشفته غزة.