ألقت بيانات الأرقام القياسية لأسعار المستهلكين «التضخم»، التي أعلنتها الإدارة المركزية للإحصاء، حديثاً، وأظهرت استمرار نموّها بواقع 2.84 بالمئة في شهر يونيو الماضي على أساس سنوي، الضوء على واقع التضخم في البلاد خلال السنوات الأخيرة الماضية، وتحديداً منذ إعادة احتساب معادلته عام 2017 وفق سنة أساس جديدة هي 2013 بدلاً من 2007.

وبناء على الأرقام المنشورة في موقع الإدارة العامة للإحصاء، فإن التضخم في الكويت منذ إعادة احتساب معادلته بنهاية عام 2017 حتى يونيو الماضي ارتفع بواقع 18.4 بالمئة، أي أعلى من أي دولة خليجية أخرى بعد استبعاد الآثار التضخمية، التي أفرزها إقرار السعودية والإمارات لضريبة القيمة المضافة في السنوات الماضية، إذ يرتكز ارتفاع التضخم في الكويت على مجموعات أساسية أكبرها خلال فترة الـ 78 شهراً محل البحث كانت في مجموعة الأغذية والمشروبات، الذي بلغ 39.2 بالمئة تلته مجموعة الكساء والملبوسات بـ 31.5 بالمئة، فيما ارتفعت مجموعات كالترفيه والثقافة بـ 25.3 بالمئة والاتصالات 23.4 بالمئة والنقل 21.1 بالمئة، فيما أقل مجموعة من حيث الارتفاع كانت لـ «خدمة المسكن» بواقع 4.5 بالمئة، وهي نسبة متدنية كون بيانات الإحصاء لا تحتسب أسعار صفقات القطاع السكني أو إيجاراته، مما يجعل بالأصل بيانات التضخم - وهي بالأصل مرتفعة - موضع شك يشير إلى وجود تضخم أكبر غير محتسب يؤثر في قدرة المستهلكين الشرائية وخياراتهم المالية.

Ad

جهد أكبر

ولسنا في موضع التعمّق في تحليل الأرقام، التي تعلنها الإدارة المركزية للإحصاء التي تحتاج إلى كثير من الجهد الحكومي لإصلاح أوضاعها، أقلّها تعيين مدير أصيل للإدارة بدلاً من التكليف، مروراً بالتوصل إلى آليات أكثر احترافاً لاحتساب بيانات التضخم أو انتظام تقديرات الناتج المحلي الإجمالي الربعي أو تقريب الفترات الزمنية لإجراء مسح الدخل والإنفاق الأسري، فضلاً عن رفع كفاءة القياس وتحليله كي يكون مفيداً لمتخذ القرار، انتهاء بتوفير قاعدة بيانات حديثة ومتطورة تمنح متخذي القرار والمستثمرين والباحثين فرصة فهم الأرقام والتطورات ذات العلاقة بالاقتصاد والسكان والمجتمع البيئة وغيرها من مناحي الحياة، إنما الهدف هو قراءة علاقة التضخم بالنشاط الاقتصادي والآثار المترتبة على الإنفاق والاستهلاك والطبقة المتوسطة.

ولعل أكثر ما يمكن ملاحظته عند تتبّع مسار التضخم في البلاد خلال السنوات الماضية، هو أنه لم يكن ناتجاً كضريبة مؤقتة عن سياسات إصلاح اقتصادي أو مالي يمكن أن تحدث اختلالاً قصيراً أو حتى متوسط المدى في موازين العرض والطلب في السوق، كأن تقر الدولة ضريبة على الشركات وأصحاب الأعمال أو تعيد تسعير أملاك الدولة أو تقوم بأغراض الاستثمار في أراضيها أو بسبب فورة في إنجاز المشاريع والبنى التحتية أو لنشاط اقتصادي كبير، فهذه من الإصلاحات والتحولات، التي تترتب عليها آثار تضخمية مؤقتة، غير أن حالة الكويت لا تشمل كل ما سبق، إذ إن ارتفاع التضخم فيها يعبّر عن إخفاقات إدارية في السياسات الخدمية والاستهلاكية والتجارية، وليس نتيجة إصلاحات أو تطور اقتصادي أو مالي.

الأغذية والملبوسات

فتصدّر مجموعتي الأغذية والملبوسات لقائمة الأكثر ارتفاعاً في مؤشرات التضخم، ثم مجموعات الترفيه والثقافة والاتصالات والنقل، يعبّر عن إخفاقات إدارية شهدتها الكويت انعكست على الاقتصاد والمجتمع، كالاحتكار، خصوصاً للوكالات التجارية والسلع والأراضي وما يترتب عليه من غلاء للأسعار، إلى جانب ارتفاع تكاليف الاستيراد بسبب محدودية الصناعة المحلية، وبالتالي انخفاض مرونة التعامل مع تحديات سلاسل الإمداد وتقلبات أسعار الشحن والنقل والتخزين والتوريد، فضلاً عن انخفاض جودة الخدمات العامة كالصحة والتعليم والطرق، فضلا عن غياب السياسات النقدية لامتصاص السيولة من السوق، التي قد تتمثل في رفع أسعار الفائدة لجذب الودائع أو طرح الاكتتابات العامة بما يؤدي إلى خفض الطلب على السلع بالتالي انخفاض التضخم... وهذه حلول مطلوبة، بل وحتمية، ولا علاقة لها بأي مطالبات منحرفة معاكسة تتعلق بمطالبات المنح أو الزيادة المالية أو غير العملية والقاصرة كما يُعرف بـ «مراقبة الأسواق والأسعار».

تراخٍ بالقياس

ولعل من أوجه القصور الواضحة في الكويت، التراخي غير المبرر مع أدوات قياس الاستهلاك، وهو ما يُعرف بمسح الدخل والإنفاق الأسري الذي تجريه إدارة الإحصاء، الذي يفترض أن يكون سنوياً، غير أنه بات يحتاج إلى عقد كامل، أي أنه يصدر عملياً بلا معنى ومن دون فهم لطبيعة تطورات القوة الشرائية واتجاهات المستهلكين، خصوصاً وسط توجه الدولة نحو إعادة هيكلة الدعوم والخدمات المقدمة للمواطنين والمقيمين والشركات.

ومما لا شك فيه أن إهمال تصاعد التضخم لا يعبّر فقط عن إخفاق اقتصادي أو إداري، إنما أيضاً يناقض التصريحات الرسمية بما يعرف عدم مسّ جيب المواطن، ويضغط على الدينار، ويؤدي لنتائج سلبية، منها انخفاض القدرة الشرائية لدى المستهلكين، وصولاً إلى قلق أكبر يتعلق بدخول «دائرة خبيثة أو حلقة سامة» يزداد فيها المعروض النقدي من خلال رفع الرواتب والمزايا المالية لتخفيض آثار التضخم، فيرتفع الطلب مجدداً ويعود التضخم إلى الارتفاع، فتبرز المخاوف من الضغط على العملة الوطنية (الدينار)، فتعود بنا الدائرة مجدداً إلى ضخ الأموال فارتفاع التضخم ثم الضغط على الدينار، وهكذا حتى نصل إلى مخاوف اقتصادية واجتماعية لا يريد أحد حتى التفكير في بلوغها.