الانعتاق من فضاءات الشلل الحضاري
ماذا يحدث لو أننا أتينا بعباقرة الإدارة والتنمية أمثال مهاتير وسلمناهم زمام الإدارة؟ هل ستحدث معجزة سنغافورة أو ماليزيا أو دبي؟ طبعاً من المؤكد علميا ومنطقيا أن ذلك سيحدث إذا تم إخلاء كل الفضاء التشريعي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والفني لهؤلاء دون أن تمارس أي سلطة ظاهرة وباطنة شعبية أو حكومية تحكمها بهم، لا بد أن يتحرك هؤلاء بحرية تامة تصل لدرجة التحكم والقدرة على التوجيه في أقصى قوتها وحدودها، بحيث تتحول كل المؤسسات كما الطين أمام يدي الخزّاف، وبحيث تَنْدَك كل المسلمات العتيقة للدولة الريعية ودولة الرعاية، فلا تدير الحكومة بشكل مباشر إلا الجهات الأمنية وجهات العدالة والجهات المالية، وتتحول الجهات الحالية إلى جهات رقابة وتقييم وتخطيط ومحاسبة كل في المجال الخاص به.
وهنا سنركز، على سبيل المثال، على ماذا سيحدث لقطاع التعليم الذي قلنا- في مقال سابق- إن وزارة التربية والتعليم لن يبقى فيها إلا 7000 موظف من أصل 130 ألف موظف مهمة هؤلاء السبعة آلاف الرقابة والتقييم والتخطيط والمحاسبة لأي مدرسة تنحرف عن المعايير الموضوعة وفق المتعارف عليه عالميا من نظم وأهداف. مؤكد أن التعليم سيتطور وتستنسخ أفضل وأنجح التجارب في الدول المتقدمة والدول الخليجية القريبة، وستربط المناهج باحتياجات المجتمع الفعلية واحتياجات السوق، وستتبدل المناهج وكل طرائق صياغة شخصية الطالب من ناحية تعليمية وتربوية بحيث تكون مخرجات التعليم على درجة من التفوق العلمي والرقي الأخلاقي والاحترام وتشرب الطالب للقيم وقواعد السلوك الراقي في التعامل، وهذا ما نلمسه في أبنائنا الذين يدرسون في المدارس الخاصة الراقية في طريقة الكلام والتعامل مع الكبار والصغار والالتزام بالنظام وقوة الشخصية والقدرة على حرية التعبير والاعتماد على الذات ناهيكم عن أن هذه المدارس ترعى الهوايات والميول، والمدارس فيها تتحول الى بيئة جاذبة ومُسعدة للطالب، بحيث يتمنى الطلاب، كما في بعض الدول، عودة المدارس في العطلات!! وهنا لن تجد القواعد الرسمية والطوابير الصباحية والمدرسين الحاملين للعصا وكل أساليب الترهيب. لا أنسى منظرنا عندما نظمت مدرستنا الابتدائية زيارة لحديقة الحيوانات كنا في طابور منتظم يقودنا مدرس شرس كأننا صفوف من الجنود الألمان أيام هتلر، وكان طلاب المدارس الخاصة قريبين منا أحراراً يلعبون عند المقهى وضحكاتهم يرتج بها المكان، وملابسهم الزاهية تثير غيرتنا ويتقاذفون كرة هوائية بألوانها المفرحة ونحن لا نكاد نتكلم مع زملائنا، وإن شذّ عن الطابور جاءه التقريع وربما الضرب من المدرس المتجهم.
في ظل الفلسفة الجديدة للتعليم سيغادر الساحة التعليمية عمليات الغش والبحوث وبيع الأبحاث والدروس الخصوصية، بل لن تستغرق الواجبات إلا عشر دقائق كما في فنلندا التي تتفوق على دول العالم، ولا وجود لواجبات، وعندما سئلت وزيرة التعليم عن سر هذا التفوق أجابت لأننا ألغينا الواجبات المنزلية، وهنا تستحضر شقاء الأمهات وقلقهن عند بداية الدراسة في التدريس وتنظيم الكتب، وأحيانا كتابة الواجبات المدرسية وحل المسائل خوفا من هبوط مستوى ودرجات أبنائهن.
ما أكثر ما يهذر المسؤولون بمقولة «يجب الاستثمار في الرأسمال البشري»، في ظل مناهج تعليمية مدمرة ونظم حياة قامعة للكفاءات وخلل فظيع في فلسفة المجتمع وثقافته، تكون هذه المقولة في غاية الابتذال، وكأنها عملة ممسوحة فقدت قيمتها ومعناها.
ولا ننسى مشكلات نقل المدرسات والطلبة والواسطات والصراع على المناصب ومشكلات البطالة المقنعة، وقلة المدرسين في المواد العلمية، وتضخم عددهم في المواد السهلة، كل هذا الركام الثقيل المرهق سيتبخر وتتبدل معايير الاختيار، ويكون التدريس مهنة جاذبة للكفاءات لا يجتازها الا المتميزون.
وقد اقترحنا أن تلتزم الدولة بتسديد الرسوم عند حدود معينة قدرها ألفا دينار لرياض الأطفال و4 آلاف دينار للمراحل الأخرى، وفي ظل معايير وأهداف وعمليات قياس وتقييم دوري للمداس وتحديد كفاءتها بكل شفافية وموضوعية وفي ظل محاسبة وعقوبات ومخالفات صارمة، هذا فقط في الفضاء التعليمي. إنها ثورة كوبرنيقية في فضاء ميت وعر، فهل نخرج من أسْر ورِهاب معادلة دولة الرعاية والدولة الرعوية الأفعوانية العاصرة لفضاء حر متحفز للتغيُّر والتطوُّر؟