إذا تذكرنا مشكلة الحكومات المتعاقبة في عجزها عن تنفيذ أي خطة تنموية خمسية، فسنتذكر «الفوضى الخلاقة» في قطاع توظيف الكويتيين، حتى إن لم يكن هناك تعمد مقصود لخلق هذه الفوضى في التوظيف، بحكم أن الديرة كانت تسير على البركة خلال فترة من الفترات، نتيجة وجود وفرة مالية، أقول هذا لأنني أعرف أن جامعة الكويت لوحدها، ومنذ أكثر من خمسين سنة، استمرت في تخريج متخصصين في المحاسبة والقانون وعلوم الكمبيوتر والرياضيات والفيزياء والأحياء وغيرها من التخصصات العلمية التي تحتاج إليها الدولة، ورغم ذلك لا نرى أحداً من هؤلاء الخريجين في الوظائف الحكومية، إلا ما ندر.

هناك عشرات الجامعات العربية والأجنبية كل منها تضخ إلى سوق العمل خريجين من تخصصات لا تحتاج لهم الدولة منذ عقود إلى يومنا هذا، وصاروا عبئاً ثقيلاً على ميزانية وزارة التعليم العالي وعلى ميزانية الدولة بعد تخرجهم وانخراطهم في العمل، مثل تخصص اللغة العربية، وعلم النفس والفلسفة، والتاريخ، والجغرافيا، والشريعة، وغيرها من التخصصات النظرية التي لم تعد لها أهمية إلا في أضيق الحدود، ورغم ذلك لم يقف مسؤول واحد في الدولة في وجه أي طالب ينشد التخصص في مثل هذه العلوم النظرية أو الأدبية ليقول له: «أنت حر في اختيار التخصص الذي تريد أو المجال الذي تستطيع الإبداع فيه، لكننا كدولة لا نحتاج إلى مثل هذه التخصصات في الوقت الحاضر، وبالتالي فإننا غير مسؤولين عن توظيفك في أي وظيفة، أيها الطالب قد تجد نفسك عند التخرج بلا وظيفة لضمان مستقبلك ومن يدري فقد تجبر على الانخراط في وظيفة لا تناسب تخصصك، ولا مكانتك الاجتماعية، ولكن لتمنع عنك ذل السؤال للحصول على لقمة العيش».

Ad

مثل هذا الموقف لم نشاهده أبداً ولم نسمع به طوال السنوات أو العقود الماضية، فهل نحن مقبلون على عهد جديد يخلو من النفاق الوظيفي لضمان مستقبل الأجيال القادمة أو على الأقل مستقبل البلد؟ الغريب أن هذا التخبط نجده حتى في التخصصات الطبية أيضاً، فقد كانت الكويت في فترة من الفترات بأمس الحاجة إلى كل تخصصات طب الأسنان، ثم فجأة انقلب الوضع رأساً على عقب، وتبين لنا أننا نعاني زيادة في عدد أطباء الأسنان بشكل لافت للنظر، دون أن تلبي هذه الكثرة العددية حاجة الدولة إلى كل التخصصات الدقيقة في طب الأسنان.

فقبل أكثر من عشر سنوات عندما كان الدكتور رشود الرشود مديراً لمركز طب الأسنان في المستشفى الأميري، أخبرني أنه وبسبب كثرة أطباء الأسنان الحديثي التخرج، اضطر إلى وضع أكثر من طبيبين كويتيين في عيادة واحدة، حتى بوجود أطباء أسنان غير كويتيين، وهذا مرده إلى سوء التخطيط، فقد يختار الدارس لطب الأسنان تخصصاً لا تحتاجه الدولة، أما ما تحتاجه بلادنا أن يتخصص فيه فعلياً أو يشغله طبيب غير كويتي.

المشكلة الأخرى التي تعانيها الدولة اليوم، أنها تمارس أسلوبها القديم نفسه في التوظيف، إذ يتم توظيف خريجي الجامعات من كل التخصصات، سواء في الحكومة أو في القطاع الخاص، دون أن يملك هؤلاء الخريجون شهراً واحداً من الخبرة العملية أو الميدانية، فيبدأ حديثو التخرج مشوار التعلم واكتساب الخبرة أثناء الوظيفة، مما يعني أن هذا الموظف يحصل على راتب دون مقابل، وهي فترة قد تمتد سنة أو سنتين أو أكثر حسب شطارة هذا الموظف الجامعي في استيعاب التدريب ليبدأ بعدها التطبيق العملي، ولم يجرنا إلى تطبيق هذا الأسلوب التوظيفي العقيم إلا الواسطة والفائض المالي، وأهم من هذا وذاك غياب التخطيط.