حول إشكالية كتابة التاريخ واتجاهاتها!
منذ أن بدأت الكتابة التاريخية في أشكالها المختلفة، وعصورها القديمة والحديثة والمعاصرة، لايزال النقاش والجدل بشأن أساليبها وأنماطها مستمراً، فقد حظيت كتابة تاريخ الحكام والطبقات المهيمنة بشكل عام، ما عدا بعض الاستثناءات، خلال الحقب القديمة والوسيطة والحديثة، بالأولوية لتدوينها والاحتفاء بها، إلا أن التحولات التي انطلقت تباشيرها في القرن السادس عشر ميلادي أحدثت نقلة نوعية غذّتها الآداب والفنون والفلسفات التي برزت نتائجها، خصوصاً مع بداية القرن التاسع عشر، خلاله شهد العالم نقلة معرفية نوعية مفصلية في المركز الغربي الأوروبي الذي قاد حركة التنوير والتقدم آنذاك، ووظفت هذه الأنساق التي شهدتها العلوم الإنسانية والاجتماعية في تعزيز أدوات المد الاستعماري النهم لفتح أسواق واستغلال موارد طبيعية جديدة.
كان ولا يزال هذا المركز الغربي، وإن تغيرت أقطابه، محتاجا لتبريرات وتسويغات تقدم له على أنها جزء مهم من النخب الدائرة في ركابه أو المنظرة لمركزية العالم الغربي، وهو ما أنتج تداخلا عميقا بين مفاهيم الهيمنة وتشريع الصراع وتبرير الفوقية الثقافية وعلوية جنس على آخر، لتبقى علوم المجتمع، فيما عدا بعض الاستثناءات القليلة، رهينة المركز المتحكم وتاريخه الرسمي المدون على المقاس، فالكتابة عندئذ تصبح أداة طيعة بأيدي الطبقات الحاكمة والمتنفذة، تستثنى منها الفئات والشرائح المهمشة بالمركز وفي الأطراف المستعمرة.
مع بداية القرن العشرين والصراع على النفوذ بين القوى الإمبريالية بدأت بعض الاتجاهات الأكاديمية تبحث عن صيغ أخرى تتجاوز المفاهيم السابقة وتعطي دفعة جديدة في التأريخ للإنسان والمجتمع والعالم، وفق مناهج تستأنس بعلم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة والأنثروبولوجيا.
ولابد من الإشارة هنا إلى التنظيرات الاشتراكية والشيوعية التي ساهمت بشكل عميق في هذه الدفعة المنهجية، عبر استقرائها للعلاقات الطبقية والبنى الفكرية وعلاقات الدين بالسلطة، وغيرها من المسائل التي وسمت التحولات الحديثة في العالم الغربي.
ويبدو أن حروب الهيمنة والصراع على مناطق النفوذ المحتدم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين قد أثر على هذه المناهج وتداخل معها ووجّه مخرجاتها وفقا للتيارات المتصارعة، ولم يستطع أغلب الأكاديميين النأي بأنفسهم عن هذه الأزمات بل كانوا في دائرتها تأثيرا وتأثرا.
كل هذه التراكمات المعرفية، وضعت على مسار التجربة والخطأ والتعديل والتصحيح والمراجعة، بحكم انتمائها لمجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، الذي يكتسب قوته ونجاعته من القدرة على التجاوز والجدل وبناء المنهج وتصحيحه.
فمن يقرأ حدث اكتشاف أميركا على سبيل المثال، قبل قرنين زمنيين ليس كمن يقرأه اليوم وطبعا ليس كمن سيقرؤه مستقبلا، إذ ستختلف زاوية النظر والبحث عن الأبعاد والتزامنات والمستجدات في منهجها وآلياتها ونتائجها.
ورغم اختلاف المدارس والظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، إلا أنها تنقسم في مجملها بين مدرستين، أولى تقليدية، تندرج تحتها عدة توجهات لكنها تحمل رابطا مشتركا يحرص على التمسك بالمسلمات المنهجية والتقسيمات الثابتة والجامدة مثل التحقيب التاريخي المتعارف عليه والتاريخ المتسلسل والميل للتأريخ الرسمي، الذي كتبته القوى الاجتماعبة والسياسية والدينية المسيطرة، وقد لا يترك هذا التوجه مجالا للنقاش بشأن المضمون والمنهج متمسكاً بالبناء الشكلي الثابت لمضامين وظواهر سمتها الغالبة هي التحول والتطور.
المدرسة الثانية التي تندرج ضمنها عدة اتجاهات في الكتابة، تسعى إلى إيلاء الأهمية لمصادر جديدة وروايات مختلفة، تستأنس فيها بالمسكوت عنه، وبالهوامش المتروكة لبناء منهج جدلي قادر على الصمود والتطور وغير ملتزم بالرواية الواحدة من خلال رؤية نقدية لا تتبنى الآحادية وتسعى إلى تنويع مراجعها وفقا لبنية ثنائية، تراجع الخطأ وتستلهم التجارب.
لكلا النهجين إيجابياته وسلبياته، إلا أن كتابة التاريخ بحث مستمر عن حقيقة نسبية لا تلتبس بمطلق الأحكام ولا تدّعي نهاية التاريخ، ديدنها مراجعة مع كتب واستمرارية حياة النص التاريخي من خلال نقد بنيته ومنهجه ومخرجاته وفقا لبناء أكاديمي ينشد التجديد في المبنى والمعنى.