«يا أبتِ أدرك فاها، قد غلبني فوها، لا طاقة لي بفيها»، قولٌ لفتاة أعرابية خاطبت أباها بفصاحة لا مثيل لها. وراء قولها هذا حوار ظريف، وقصة طريفة، وخاتمة سعيدة.
فقد حُكي أن أبا هشام، عبدالله بن نمير الهمداني الخارفي الكوفي، أحد رواة الأحاديث، قال: كنت يوماً مع المأمون بن هارون الرشيد، وكان بالكوفة، فركِب للصيد ومعه سرية من العسكر، فبينما هو سائر إذ لاحت له طريدة، فأطلق عنان جواده، وكان على سابق من الخيل، فأشرف على نهر ماء الفرات.
فإذا هو بجارية عربية خماسية القد، أي متناسقة الجسم، كأنها القمر ليلة تمامه، وبيدها قربة قد ملأتها ماءً، وحملتها على كتفها، وصعدت بها من حافة النهر، فانحل وكاؤها، وهو رباط القربة، فصاحت برفيع صوتها: يا أبتِ أدرِكْ فَاها، قد غلبني فوها، لا طاقة لي بفيها، ثم أفلتت الجارية القربة من يدها.
قال النميري: عَجِبَ المأمون من فصاحتها، فسألها: يا جارية من أي العرب أنتِ؟ قالت: من بني كلاب، قال: وما الذي حملكِ على أن تكوني من الكلاب؟ فقالت: والله لست من الكلاب، وإنما أنا من قومٍ كرام غير لئام، يقرون الضيف ويضربون بالسيف.
ثم قالت: يا فتى من أي الناس أنت؟ فقال: أو عندكِ علم بالأنساب؟ قالت: نعم، قال لها: أنا من مضر الحمراء، قالت: من أي مضر؟ قال: من أكرمها نسباً، وأعظمها حسباً، وخيرها أماً وأباً، ممن تهابه مضر كلها، قالت: أظنك من كنانة؟ قال: أنا من كنانة، قالت: فمن أي كنانة؟ قال: من أكرمها مولداً، وأشرعها محتداً، أي أصلاً، وأطولها في المكرمات يداً، ممن تهابه كنانة وتخافه، فقالت: إذن أنت من قريش؟ قال: أنا من قريش، قالت: من أي قريش؟ قال: من أجملها ذِكراً، وأعظمها فخراً ممن تهابه قريش كلها وتخشاه، قالت: والله أنت من بني هاشم، قال: أنا من بني هاشم، قالت: من أي بني هاشم؟ قال: من أعلاها منزلة، وأشرفها قبيلة، ممن تهابه هاشم وتخافه.
قال النميري: عند ذلك قبلت الفتاة الأرض، وقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين، قال: فعجب المأمون، وطرب طرباً عظيماً، وقال: والله لأتزوجن بهذه الجارية، لأنها من أكبر الغنائم.
ثم إن المأمون وقف حتى تلاقته العساكر، فنزل هناك، وأنفذ خلف أبيها وخطبها، فزوجه منها، وأخذها وعاد بها مسروراً، فهي التي أنجبت له ولده العباس.