كان الشعور العام في العالم العربي بالقضية الفلسطينية قبل أكتوبر 2023 غامضاً متخبطاً مسكوتاً عنه حتى وقع ما وقع وتفجر الوضع في غزة، في نكبة جديدة، لا تزال تجرف بقايا المدينة المنكوبة وتزيد القضية تشابكاً وتعقيداً.
العالم العربي اليوم أمام حلول واختيارات أليمة، فالفلسطينيون منقسمون، والدول العربية غارقة في مشاكلها القديمة والجديدة، وقناة السويس مشلولة بسبب صواريخ الحوثي من اليمن، والسودان، سلة خبز العربي، في مجاعة لا ترحم، والعراق يعاني العطش والشد والجذب التركي- الكردي، وإيران لا تعرف أي كفة عربية تختار!
الكثيرون يعتقدون لأسباب وجيهة أن بعض الدول العربية وساسة التقارب مع إسرائيل والحلول الوسط وبخاصة بعض الدول الخليجية، على وشك إيجاد حل أو مخرج للأزمة.
حتى اختارت جماعة «حماس» ومساندوها، الحرس الثوري الإيراني والإخوان المسلمون وغيرهم، الطريق الذي نحن والفلسطينيون ومنكوبو أهل غزة فيه... من يسدد فاتورة إعادة بناء «غزة»؟ لا أدري! ما الذي سيحدث للفلسطينيين وأهل غزة خاصة إن هزمت حماس أو خرجت من الساحة؟
بل يجدر بنا أن نفكر كذلك بمستقبل الخبرة العسكرية التي راكمها الإخوان المسلمون وحماس في مجال الحرب والمقاومة في المدن وإطلاق الصواريخ والتنسيق مع إيران وحلفائها، ما العمل إن وضعت «حماس» قدراتها وخيراتها في حرب المدن بيد جماعات الإخوان وغيرهم أو ضغطت على الفلسطينيين ضد الأردن أو مصر أو غيرها، في أي اتجاه؟
لحسن الحظ، نحن نستفيد من بقايا اهتمام الولايات المتحدة بالعالم العربي، قبل أن يحدث شيء ما في شرق آسيا، ويصبح الدفاع عن المصالح الأميركية والغربية هناك هو الأولوية، ونترك لمصيرنا، اللي يتفرج واللي يبطش واللي يلطش!
نجحت الدول العربية على مدى ثمانية عقود، منذ عام 1948، في احتكار العمل من أجل حل القضية الفلسطينية، ولم يعط لا الإنسان الفلسطيني ولا مواطنو الدول العربية حرية العمل والحركة.
وهيمنت على الجميع فكرة «تحرير فلسطين» الرومانسية التي لم يعد أحد يملك تعريفاً سياسياً لها، كما برهنها الزميل د. حامد الحمود (القبس، 2024/7/14)، حيث طرح د. الحمود سؤالاً على نحو 150 متابعاً لموقعه الإلكتروني حول المقصود، أو «ماذا يقصد العرب بتحرير فلسطين؟»!
ويقول د.الحمود في مقاله: «لا القياديون الفلسطينيون متفقون على معنى صيغة التحرير، ولا الشعب العربي، ولا أهل الضفة الغربية، أو أهالي غزة أنفسهم متفقون على ذلك، وأعتقد أن احتمال السلام أو ديمومة الحروب والمآسي يعتمدان على فهمنا لمعنى تحرير فلسطين، لذلك أجريت استبياناً ليبوح، الناس بآرائهم حول معنى التحرير، فسألت التالي:
ماذا يعني تحرير فلسطين؟
فأجاب حوالي المئتين بالتالي:
1- طرد اليهود من فلسطين 55%.
2- تحويل إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية 25%.
3- دولة للفلسطينيين في الضفة وغزة 20%.
والحقيقة فوجئت بأن أغلبية الذين أجابوا على الاستبيان، وجدوا أن تحرير فلسطين يعني طرد اليهود، من أرض فلسطين» (القبس 7/14)
وهذا يعني أنه حتى لو اتحد الفلسطينيون، ممثلين في حماس ومنظمة التحرير، فسينفجر صراع آخر حول مفهوم السلام والتحرير والدولة معه وخلافات أخرى.
الكاتب المصري المعروف الأستاذ «مأمون فندي» کتب قبل نحو 15 عاماً مقالاً بعنوان «من يريد حل القضية الفلسطينية؟» (الشرق الأوسط، 2009/6/15) قال فيه ما يستحق أن نقرأه اليوم كذلك، وربما غداً!
قال الأستاذ الفندي في ذلك المقال: «أعرف تماماً أن الإسرائيليين لا يريدون حل القضية الفلسطينية، لكن هل يريد العرب حل القضية؟» وأجاب: «المؤشرات لسلوك الكثير من الدول العربية وكذلك الحركات المقاومة والممانعة والمعتدلة لا تنبئ بأن هؤلاء يريدون حل القضية أيضا، القضية الفلسطينية قضية دولية لا تحلها إلا دول، وعلى الفلسطينيين أن يختاروا من الدول من يساعدهم، لا من يضعهم في إطار الحركات المارقة، ومع ذلك فلا ضير من أن نطرح السؤال الأهم: من يريد حل القضية فعلا، ومن يريد أن يتاجر بها؟ هل سلوك الفصائل الفلسطينية المختلفة وتناحرها هو مؤشر الرغبة في الحل، أم أنها رغبة دفينة لبقاء الوضع على ما هو عليه؟ فالسيدان إسماعيل هنية وخالد مشعل حتى الآن لم يظهرا من النضج السياسي ما يمكننا من القول بأنهما راغبان في الحل لا راغبان عن الحل».
لا أحد يؤيد الغطرسة الإسرائيلية من احتلال وبناء مستوطنات وعزل «ولكن هل إدانة إسرائيل تمثل في الوقت ذاته صك براءة وغفران لكل الحماقات التي ترتكبها الفصائل الفلسطينية في حق شعبها وقضيتها؟ ظني أن العقلاء منا لا يقبلون بأن تبقى هذه القيادات الفلسطينية خارج دائرة النقد».
وخاطب «الفندي» حركة حماس قائلاً: «وليسمح لي الإخوة المشايخ في حماس أن أقول لهم إن القضية الفلسطينية لن ترى طريقها إلى الحل سواء كان رئيس الولايات المتحدة هو باراك أوباما أو قديس مخلص، ما لم يتوحد الصوت الفلسطيني وما لم يلتف الفلسطينيون حول قيادة موحدة، فلا يوجد عاقل في العالم يدير مفاوضات على مستقبل دولة مع جماعتين مختلفتين كما هو الحال اليوم بين حماس وفتح، حل القضية الفلسطينية اليوم هو في يد الفلسطينيين أكثر من كونه بيد غيرهم... سلوك «حماس» لا يقلق أميركا وحدها، إنما يقلق بعض الدول العربية أيضا، فحماس اليوم تنظر إلى «حزب الله» على أنه النموذج للمقاومة».
وقال الكاتب في المقال إن الناس في غزة أو لبنان تريد حياة أفضل: «الناس تعبوا من المقاومة التى لا طائل منها، فالمقاومة لا بد أن يكون لها هدف سياسي»، ولكن هل كان يحق لحماس آنذاك أو اليوم أن يصل بها الإعجاب بحزب الله إلى تبني وجهة النظر الإيرانية؟
كانت حماس وغيرها تدرك أن «حزب الله» يعبر عن جزء محدود من اللبنانيين، ويغتصب حق التعبير عن الأغلبية اللبنانية، ألم تدرك حماس حتى الآن أن إيران غير قادرة وغير راغبة في «منازلة» إسرائيل ومن يقف خلفها؟ ثم هل يحق للقيادة الإيرانية أن تصرف هذه المليارات من الدولارات على صواريخ حماس التي اكتشفنا جميعاً حدود تأثيرها البسيط وعدم قدرتها على «إزالة اسرائيل من الوجود» كما تهدد إیران دائماً؟! بل من يحق له في مجلس «البرلمان الإيراني»، أو الإعلام أو «الأحزاب الإيرانية» بل حتى رجال الدين في قم ومشهد أن يرفع صوته بالاعتراض؟
أين الذين يطاردون النساء في شوارع طهران ويصدرون فتاوى الحجاب الإجباري، ويقفون عاجزين عن حماية ثروات إيران وملياراتها التي تخرج من البلاد ليل نهار؟ متى نرى وجه إيران الاستثماري والسياحي والثقافي؟ أما تكفي 45 سنة من التوتر والصواريخ والمسيرات منذ 1979؟
ماذا عن فلسطين وغزة؟ سنواصل الحديث!