وجهة نظر: الإيقاف الدائم للمتلاعبين بأسواق المال... عقوبة غائبة!
من البديهيات أن أسواق المال تتمتع بأهمية قصوى في اقتصاد أي دولة لما تؤديه من أدوار وما تقدمه من مساهمات مؤثرة في النشاط الاقتصادي. إلا أن خصائصها الفريدة والمختلفة والمعقّدة عن بقية الأسواق التقليدية أو العادية جعلتها تنفرد بمجموعة قوانين ولوائح مختلفة تتضمن أيضا عقوبات مختلفة تهدف الى الحفاظ على هذه الأسواق الحساسة والمهمة من أي سلوكيات وممارسات قد تفضي الى زعزعة الثقة بها.
ومن هذه العقوبات عقوبة الإيقاف الدائم للمتداول المخالف، وهي محور هذه المقالة، حيث نهدف الى التركيز على أهمية تفعيل هذه العقوبة في أسواق المنطقة وعواقب غيابها على السوق بشكل عام.
في البداية، يشكّل المنع أو الإيقاف الدائم لتداول الأفراد في أسواق الأوراق المالية إجراء تنظيميا بالغ الأهمية يهدف إلى الحفاظ على سلامة السوق، وحماية المستثمرين من المخالفات الجسيمة التي تنتهك القوانين واللوائح وتضر بمصالح جميع المتعاملين في السوق. ومن أبرز الأمثلة على هذه المخالفات الجسيمة الغش والتضليل والتلاعب والتداول بناء على معلومات داخلية Insider trading، وهي سلوكيات تنمّ عن العمد والقصد، أي أنها ممارسات لا يمكن أن يتم إحسان الظن بمرتكبيها والتهاون معهم بشكل أو بآخر.
لذلك تكمن أهمية هذه العقوبة (الإيقاف الدائم عن التداول) في أنها رسالة واضحة وحازمة من قبل الهيئات الإشرافية والرقابية مفادها أنه لن يتم التسامح مع السلوك غير الأخلاقي، وبالتالي ردع الآخرين من ارتكاب أية أفعال مماثلة مستقبلا.
ومن صور هذه المخالفات الجسيمة، التلاعب والتحايل من خلال إدخال أوامر لشراء أو لبيع ورقة مالية بهدف وضع سعر مسبق التحديد للبيع أو العرض أو الطلب، وتحقيق سعر افتتاح أو إغلاق مرتفع أو منخفض، إضافة إلى إدخال أمر أو سلسلة من الأوامر على ورقة مالية دون وجود نيّة لتنفيذها، والتأثير في سعر ورقة مالية أخرى.
كذلك من صور المخالفات الجسيمة ما يتعلق بالتداول الداخلي، وهي قيام شخص مطلع من داخل الشركة أو شخص لديه معرفة بشخص مطلع بالاستفادة من معلومات لم يفصح عنها بعد، وذلك بهدف تحقيق ربح أو تجنّب خسارة بناء على هذه المعلومات.
أما من حيث عواقب التساهل مع تلك السلوكيات وعدم استخدام هذه العقوبة الرادعة والفعالة، فإنها تمتد إلى ما هو أبعد من المتداول الفردي، لتشمل استقرار السوق على نطاق أوسع، حيث تؤدي حالات سوء السلوك إلى زعزعة ثقة المستثمرين، وبالتالي إعاقة نمو وتطور تلك الأسواق.
ومن حيث دوافع التوصية بتبنّي هذه العقوبة، فهو تكرار ارتكاب تلك المخالفات الجسيمة في هذه الأسواق الناشئة، بل إن بعضها يتكرر من ذات الفرد، في دلالة واضحة على عدم فعالية العقوبات الصادرة ضد أولئك المخالفين، وأنها لا تؤدي الغرض منها، وهو أن تكون وسيلة ردع وزجر. علما بأن أسواق المنطقة تمتلك لوائح ونظما تعاقب من يرتكب مثل هذه المخالفات الجسيمة بالحبس لمدد لا تتجاوز خمس سنوات، إلا أن هذه العقوبة أيضا غير مفعّلة. والغريب هنا أيضا أن بعض هذه المخالفات ترتكب من قبل أعضاء مجالس إدارة شركات مدرجة، ومع ذلك لا تؤثر تلك العقوبات من غرامات أو إيقاف مؤقت على استمرار عضوياتهم، رغم أنها إدانات تطعن في نزاهة وأمانة من صدرت بحقهم. والسؤال الملحّ هو: هل يجوز لمن تمت إدانته بعمليات تلاعب أكثر من مرة وتغريمه بأن يستمر عضوا في مجلس إدارة شركة مدرجة يفترض فيمن يكون عضوا فيها أن يكون نزيها وأمينًا على مصالح مساهمي الشركة؟ وهنا يحضرني مثال حديث على استخدام هذه العقوبة حتى في أسواق لا تعد متقدمة، وهو ما حدث بالصين في مارس الماضي، حيث تمت معاقبة مؤسس شركة Evergrande Group ورئيس مجلس ادارتها بالحظر مدى الحياة من سوق الأسهم تماما، علاوة على غرامة مالية تقدر بـ 6 ملايين ونصف المليون دولار، بسبب ممارسات تتعلق بالغش والتلاعب وإفصاحات متأخرة.
ختاما، في حين أن الإيقاف الدائم للتداول يعد إجراء جريئا وحاسما، وغالبا ما يكون الملاذ الأخير، فإن تنفيذه نعتقد بأنه يشكل ضرورة أساسية للحفاظ على مصداقية وكفاءة أسواق الأوراق المالية «خصوصا ضد السلوكيات التي يثبت بحقها تعمد التحايل والتلاعب والتضليل وخيانة الأمانة». فكيف لهذه العقوبة أن تكون حاضرة في أسواق متقدمة وغائبة تماما في اسواق ناشئة هي أولى بتطبيقها من أجل تعزيز الثقة فيها، وما الإضافة التي سيقدمها للسوق متلاعب يمارس الاحتيال والغش حتى يتم التمسك به على حساب المصلحة العامة للسوق وتعزيز الثقة به؟!
* أستاذ التمويل ومحاضر سابق في جامعة بورتسموث - المملكة المتحدة