«أن تكون مثقفاً نقدياً حراً ومستقلاً تؤدي دوراً تنويرياً كمثقفي الغرب، أمر عسير في دنيا العرب، يتطلب بطولة أخلاقية واجتماعية، السلطة العربية سلطة زاجرة، لا تقبل الرأي الآخر، تفرض الولاء والطاعة، وسيلتها الإرغام، لا الحوار والإقناع». كان هذا من مقال رائع لزميلنا د. عبدالحميد الأنصاري، نشر في جريدة الوطن القطرية.
يقرر الكاتب «ربما» خصوصية بالنسبة للمثقف الخليجي في دائرة المعاناة والكبت العربية، «فالخليج في ظل الثروة الريعية، يعيش وضعاً استثنائياً، يعكس ظلاله على نفسية المثقف، ففي غمرة التحديات التحديثية المتسارعة، وعامل التدفق البشري إلى الخليج من بلاد الفاقة والفائض البشري، يجد المثقف نفسه في حيرة وقلق، وتنتابه أشكال من مشاعر القلق والتوتر... توتر إغواء السلطة له بالمركز والمنصب، أي شراء صمته وإخراسه بالتالي، وتوتر التناقض بين واقعه الاجتماعي السياسي كغياب العقلانية في الثقافة العامة وهيمنة الفكر الأسطوري عليها، وتوتر من الخوف على الهوية... والحفاظ على الأصالة والموروث وروابط الدم والعائلة والقبيلة... توتر تزايد الاعتماد على مصدر أحادي للدخل... توتر الاعتماد على الأجنبي».
وفي فقرة ملهمة يعرف الكاتب عبدالحميد المثقف بأنه «مجموعة مواقف وليس مجموعة معارف يحشو بها ذهنه، يفكر باستقلالية عن ضغوط السلطة وإغراءاتها، فلا يكون موظفاً للسلطة، محامياً أو بوقاً لها، كما يحتفظ باستقلالية عن سلطان الرأي العام، فلا يتملّق الغرائز الجماهيرية كسباً للشعبوية والنجومية والمريدين...»، هنا لا يختلف عبدالحميد في رؤيته للمثقف عن تحليل غرامشي ومن بعده كثيرون، مثل إدوارد سعيد في تحديد المثقف العضوي الذي يكون دائماً على مسافة من السلطة، سواء كانت هي السلطة السياسية أو الاجتماعية.
أن تكون مثقفاً وعليك مهمة القيام بدور تنويري في دول الأوتوقراطيات السياسية وبمجتمعات ترى الحضارة والمدنية بالمولات الكبيرة وسطوة السلع الاستهلاكية التي أضحى معها البشر الريعيون بذواتهم سلعاً منتهية الصلاحية، مسألة صعبة إن لم تكن مستحيلة، مادامت الظروف السياسية والاجتماعية بقيت هي المهيمنة في صحارينا العربية، ليس لك غير أن تكون «طرزان» في غابة رطبة كثيفة وهو يتعلّق بحبال شجرة عالية وينادي بصرخته المعهودة... لتهرول نحوه الأسود والفيلة والقرود، وكلها تتعايش مع بعضها بسلام تحت قيادة طرزان، البطل المنقذ.