من المرّات القليلة التي يشهد فيها عام واحد، وبتواريخ متقاربة فيه، عدداً من الانتخابات المؤثرة في الاتجاهات والخيارات الاستراتيجية للدول المعنية، الأمر الذي سيؤدي بلا شك الى تغيير- تختلف درجاته من دولة الى أخرى - في مقاربة الملفات والسياسات الداخلية، ويطرح تساؤلات حول مدى إمكانية تغيّر خريطة المواقف الدولية من الملفات الساخنة والمصيرية.

فقد شهد النصف الثاني من هذا العام سلسلة انتخابات مهمّة امتدت على وسع الخريطة من إيران شرقاً، إلى بريطانيا غرباً، مروراً بالاتحاد الأوروبي وفرنسا، وانتهاء بالولايات المتحدة الأميركية التي تترقب مع العالم إجراء الانتخابات الرئاسية فيها والإعلان عن نتائجها.

Ad

وقد أدت هذه الانتخابات التمثيلية الى وصول الإصلاحيين الى سدة الرئاسة في إيران بعد غيابهم عنها لما يقارب العقدين من الزمن، وحصول اليمين المتطرف على نسبة كبيرة ومتزايدة من أصوات الأوروبيين والفرنسيين، الأمر الذي عكس - بشكل ظرفي - توجهات الناخبين البريطانيين الذين حانت لهم الفرصة للارتداد غضباً على السياسات الاقتصادية والاجتماعية للمحافظين، مما منح حزب العمّال نسبة غير مسبوقة من المصّوتين لمصلحته، وذلك بانتظار الفوز المتوقّع - وغير المحسوم - للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بعد انسحاب منافسه الرئيس الحالي جو بايدن من السباق الانتخابي وشعور الخيبة المسيطر على جمهور الحزب الديموقراطي من أداء قياداته.

من المنطقي أن تكون النتائج الداخلية لتبدلات المزاج الشعبي سريعة وواضحة، فقد تشهد إيران تغييراً ملحوظاً في ملفات الحريات والحقوق الأساسية والسياسية، في حين ستتجه أوروبا الى مزيد من التضييق على المهاجرين والتشدد في برامج الرعاية الاجتماعية والصحيّة، وسيضطر الرئيس الفرنسي الى تمرير ما تبقى من ولايته الرئاسية بمهادنات تضعف من موقفه أو بمواجهات قد تفقده التحكم في كثير من الملفات والمواقف، فضلا عن وضوح موقف الجمهوري ترامب من المحكمة العليا الأميركية والقضاء بشكل عام، وموقفه من قوانين الهجرة والمهاجرين، ومن مسألة التشدد مع الإجهاض، وميله الى مسايرة كبار الرأسماليين وموقفه المتذبذب من الضرائب مع جنوح نحو زيادة الرسوم على الواردات بحجة حماية المنتج الوطني تحت شعار «أميركا أولاً».

إلا أن نتائج الانتخابات على الملفات العالمية الحساسة قد لا تظهر تأثيراتها ومعالمها التفصيلية قبل الربع الأول من العام القادم، رغم ما قد يدور في فلكها من توقّعات تخص ملف الاقتصاد العالمي، والموقف الغربي من الصين وتايوان، والحرب الروسية - الغربية التي تدور رحاها في أوكرانيا ويقود دفتها حلف ناتو، وقضايا الشرق الأوسط الملتهبة وفي مقدّمتها الحرب على غزّة والملف النووي الإيراني.

فمن المرجّح ألا يتخلى الرئيس ترامب عن نمط تفكيره التجاري وأدائه القائم على معادلة الربح والخسارة التي سادت فترة ولايته الأولى، مما سيجعل أسلوب البحث عن الكسب المادي والمعنوي محركاً أساسياً في جميع الملفات الخارجية التي ستقاربها إدارته مع الحلفاء قبل الأعداء، في حين أن السياسة الخارجية الإيرانية لن تشهد كثيراً من التغيير إلا في أسلوب التعبير عن الثوابت التي يضعها عادة «مرشد الجمهورية» الثابت في موقعه وموقفه وإن تغيّرت دفة الرئاسة، أما أوروبا المنغمسة في شؤونها الداخلية وملفاتها التي تلامس حد «الوجودية»، فستكون أضعف بكثير من أن تنتفض بالخروج من مسار تبعيتها للسياسة الأميركية، ولا سيما بمواجهة روسيا/ بوتين الصامد في وجه الغرب والمراهن على خروقات تسجلّ في صفوف الوحدة الأوروبية ضده، الأمر الذي تجلّى مؤخراً بإصرار رئيس الوزراء المجري على لقاء الرئيس الروسي رغم التحفظ الأوروبي المعلن، وهذا كله يترافق مع التخوف الغربي المستمر من تصاعد قوة وتأثير التنين الصيني.

وعليه، فإن العالم ينتظر مصير الانتخابات الأميركية كي يتحدد الموقف النهائي من الملفات الكبرى المذكورة، فإن شغل ترامب المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، فإن ملف الاقتصاد العالمي والتجارة العابرة للقارات سيتجاذبه متناقضان: واحد سمته الأساسية التشدد الأميركي مع الشركات الصينية وفي العلاقة مع الصين بالمجمل، وآخر قد سيكون عنوانه إسراع الإدارة «الترامبية» الى الدخول في صفقات سياسية وعسكرية مع إيران، قد تنتج إعادة الملاحة البحرية في البحر الأحمر الى طبيعتها، مقابل بعض التراخي في الملف النووي، وبخاصة أن التيار الإصلاحي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية يفضل عادة وجود نهج متوازن في علاقة إيران الخارجية مع قوى الشرق والغرب، وذلك دون استبعاد الخشية من أن تكون التنازلات المتبادلة شكلية وغير مستدامة، نظراً لحساسية الملف النووي بالنسبة إلى الغرب وعدم إمكانية التنازل الإيراني عن المطالبة برفع العقوبات، ونظراً لتطورات المواجهة الإقليمية مع الكيان الصهيوني، الأمر المفتوح على كل الاحتمالات التي يحدد جزءا منها غطرسة وأنانية ومصالح بنيامين نتنياهو.

أما على مستوى العلاقة الأميركو- أوروبية، فلا يخفى إعلان ترامب أثناء حملته الانتخابية أنه على استعداد لإنهاء الحرب في أوكرانيا خلال أربع وعشرين ساعة، وذلك يعود الى التودد المعلن بينه وبين بوتين، والإعجاب المتبادل بقوة الشخصية وحدّة القناعات لدى كل منهما، فضلا عن أن المصلحة الأميركية تكمن بعدم دفع روسيا أكثر باتجاه الصين، إضافة الى الموقف المتشدد لترامب من حلف ناتو ومطالبته الدول الأوروبية زيادة ميزانية التسلح لديها، مما سيشّغل شركات السلاح الأميركية ويضعف أكثر الاقتصاد الأوروبي.

ولعلّ نقطة الالتقاء الأبرز بين القارة العجوز وقارة العم سام هي الخشية المشتركة من تمدّد النفوذ الصيني، والثبات في العلاقة معه على نهج التعاون الاقتصادي مع سوقه الواسع وإنتاجه الغزير مع حذر كبير من طموحاته التوسعية تجاه دول الشرق وتايوان التي لن تتخلى الصين عن فرض هيمنتها عليها مهما حاول أعداؤها مجابهتها في هذا الشأن، كون هذه الجزيرة التي تشكل «معجزة اقتصادية وتكنولوجيا» أصبحت واحدة من «النمور الآسيوية الأربعة» والبوابة الخلفية التي يمكن من خلالها اختراق سور الصين العظيم، الأمر الذي تخشاه بكين وتقاتل لعدم حصوله بقوة وعزم.

أما الانتخابات البريطانية، فمن غير المتوقّع أن تؤدي الى تغيير جذري في سياساتها الخارجية، ولاسيما في ظل التقائها التاريخي مع السياسة الأميركية على كثير من ملفات الحرب والسلم والاقتصاد والهيمنة الرقمية، وهذا ما يقود مع الأسف الى القول بأن الحرب على غزّة ستبقى حامية الوطيس بفعل إصرار رئيس حكومة الكيان الصهيوني على تمرير الوقت، انتظاراً للدخول في صفقة مع ترامب القوي، قد تكسب الطرفين في طموحاتهما السياسية داخلياً وخارجياً.

* كاتب ومستشار قانوني.