الأولمبياد... الاستنكار والنأي بالنفس لا الإشادة
كان فجر يوم سبت أقل من عادي ألملم فيه شتات الأفكار استعداداً للذهاب إلى مكتبي والعمل على ما يستجد من أمور والانتهاء من بعض الأعمال استعداداً لبداية الأسبوع بشكل رسمي، فـ«الويكند» بالنسبة لي فرصة للعمل على «روقان» لكل ما يستدعي ذلك، علاوة على الأمور الاعتيادية التي قد يمارسها أي رب أسرة حول العالم، وبكل صراحة لم أكن منتبها ولا حتى مهتما بافتتاح دورة الألعاب الأولمبية في العاصمة الفرنسية (باريس) التي كانت في يوم من الأيام فعلا عاصمة النور والأضواء، وهذا أقل دليل على مدى الاهتمام أو «قلته» في تسويق هذا الحدث الرياضي للعامة من اللجان المنظمة.
عموماً وحتى بعد علمي بالأمر لم يستجد شيء بالنسبة لي، فبعد افتتاح بكين وأثينا وسيدني وحتى لندن في العقود القليلة الماضية لن يتخطّى أو يتفوق أحد الاحتفالات بالإرث الأولمبي والاحتفاء بالأبطال حول العالم وبإنجازاتهم الرياضية وتراثهم وتاريخهم في شتى المجالات والرياضات، أوليس هذا الهدف من الأولمبياد؟!! أوليس هذا هو الهدف الأساسي لجلب لاعبي الكرة الأرضية من شتى أصقاع العالم في رياضات مختلفة برسالة إخاء وسلام وإحياء لاحتفاليات جبل «أولمبي» في رمزيته ودعم إنجازاتهم الرياضية في محاولة للانصهار والتعرف على الآخر والاختلاط بالمجتمعات الإنسانية والثقافات المغايرة؟!!
ولكن وبعد أن انهالت عليّ صور مغني الراب الأميركي العالمي «سنوب دووغ» وكل من «ليدي غاغا» وصاحبة الصوت الملائكي «سيلين ديون»، توسعت في المطالعة والتمعن في لوحات افتتاحية الأولمبياد الأخيرة في باريس لأجد العجب العجاب من رسائل ظاهرة بالمجمل ومبطنة إلى حد قليل للبعض من أمور تثير الغثيان والاشمئزاز، منافية لكل الأخلاقيات العامة والآداب والأعراف والمعاني الإنسانية السامية حتى الفطرة الإنسانية السليمة، وفي مجمل ومعرض لوحات العرض والتي نصفها هنا مجازا بـ(الفنية) وجدنا التعري والعري والتفسخ والانسلاخ من الإنسانية والشهوانية تجاه الأطفال والرسائل الموجهة للانحلال وتطور فكرة الأديان، وحين التمعن أكثر في كل ما تم عرضه نجد أن مخرج العرض اليهودي الشاذ «توماس جولي» قد حرص على عدة أمور يجب أن نتوقف عندها ونفكر قليلا لنعرف تحديدا ما يدور في رأس الطرف الآخر، وما تحمله تلك الأجندة من نقاط رئيسة تم تسويقها وإرسال رسائلها عبر الإعلام والفنون والصحافة لسنوات طويلة من بعض أصحاب رؤوس الأموال في الغرب.
كانت فكرة الانحلال والتسلخ البهيمي من الدين أمراً واضحاً وجلياً وغير مستغرب من العقلية الفرنسية بشكل عام، ولكن ليس إلى هذا الحد اللا أخلاقي، ففي لوحة العشاء الأخير للسيد المسيح التي «هندسها» أحد أبرع مهندسي وفناني العصر العلمي (النير) ليوناردو دافينشي، كان الاستهزاء واستخدام التعددية كغطاء للانسلاخ من كل فطرة طبيعية، هي السمة الأبرز لذلك العرض المسخ.
نبي الله عيسى ابن مريم (عليه الصلاة والسلام) ليس رمزاً وانتهى، بل عقيدة واضحة وجلية لأكثر من نصف سكان الكوكب، ليس ليأتي كائن من كان ويقوم باستخدام العشاء الأخير (في النصرانية) أو رمزية مائدة السماء (في الإسلام) واستغلال الأمر للتعري والانحلال و(فرض) الشذوذ على أنه أمر طبيعي لا ضير فيه وملاعبة الأطفال بصيغة (البيدوفيليا) بشكل واضح للعيان.
هذا لم يثر حفيظتي وغضبي والملايين حول العالم فحسب بل جعل الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية نفسها تصرح وتتبرأ من هذا العمل كما هي الحال مع الأزهر الشريف في جمهورية مصر العربية، وإلى لحظة كتابة هذا المقال (الفاتيكان) يصمت صمت القبور!!! عموما الرسالة كانت واضحة لمن يريد أن يقرأها ولم تكن مخفية البتة، فقد كانت بهذا الشكل: إن الدين ليس إلا وهم أو فكرة قابلة للتطور والدليل على هذا استبدال أدوار الشخصيات في اللوحة الشهيرة، فلا تتزمتوا وتلتزموا به (الدين) كثيراً لأنه قابل للتصحيح والتطور.
وعلى عكس الكلام الدائر في اليومين الأخيرين لم أجد مما شاهدته على الأقل أي إيحاءات لعبادة الشيطان، والتي ارتبطت بلوحة (ماري أنطوانيت) وموسيقى الروك (التي يمكن وصفها أحيانا بالشيطاني) ولكن وجدت في هذه اللوحة رسالة سياسية لطغاة العالم والشعوب الحرة تحتفل بمصرعها وتحاسب من يقف خلفها، ولكن لفت انتباهي رأس العجل الذهبي الذي ذهب الكثيرون على أنه عجل السامري وبنو إسرائيل في قصة نبي الله موسى بن عمران كليم الله (عليه السلام)، نعم، هو ذاك، وقد أتتني الرسالة ذاتها ولكن لمن لا يعرف العقلية الغربية جيداً ولكي لا تؤول المسألة وتحمل غير معناها، ففي العقلية الغربية الهدف هنا ليس بالديني بل على العكس تماماً ومع كامل الاحترام لكل الكلام الدائر حول هذه النقطة.
الهدف من هذا الأمر هو أمر تحرري يقصد به تحرر بني إسرائيل، وبأن لهم ما لهم من حرية ليختاروا ما يشاؤون وألا يفرض عليهم رأي من الخارج البتة، بالأصح إن أرادوا إبادة شعب باسم الحرية فهم أيضا أحرار ولهم الحق بالقيام بأي عمل وحتى افتعال الحروب، وهذه هي رمزية رأس العجل الذهبي (التحررية السياسية).
كل هذا الكلام لا يمثل الغرب بالمناسبة ولا السواد الأعظم من شعوبه ولا حتى نقطة في بحر، ففي الواقع اشمئزاز شعوب الغرب من أجندات كهذه ليس بالسر ولا بالأمر الخفي، والدليل مما يتماشى مع سياق هذا المقال كان في التصريحات العلنية لرئيس وزراء المجر بتاريخ 27 يوليو حين وصف حفل الافتتاح بأنه «يظهر الغرب بلا أخلاق»، أما وصف المتحدثة باسم الخارجية الروسية الحفل ذاته على أنه «فشل ذريع» ووزيرة الدولة للتعاون الدولي وصفت الحفل بأنه «مثير للاشمئزاز» كانت كلمات صريحة تمثل موقفاً مشرفاً لأصحابها ودولها.
ولأنني أعلم يقينا بأن الدول العربية والإسلامية لن تنسحب وهو الأمر الأصل هنا تعبيرا عن كل ما حصل في حفل الافتتاح، كان من الأرجح أن تصدر بيانا مشتركا يناهض كل هذه المهازل الحاصلة في باريس معرجين أيضا على سوء التنظيم والسرقات المتكررة التي تتعرض لها الوفود المشاركة.
وأضعف الإيمان هنا أن يكون للبلدان العربية مواقف منفردة أو بيانات استنكار لما حدث، وهنا نلفت النظر إلى أن رئيس اللجنة الأولمبية الشيخ فهد الناصر الذي أشاد بحفل الافتتاح صراحة وعلانية عبر وسائل الإعلام الرسمية، لم يكن موفقاً في ذلك، إلا إذا كان يقصد بالإشادة رفع معنويات وفدنا المشارك بطريقة أو بأخرى فقط.
وأخيراً وليس آخراً فتحية نجددها إلى دولة قطر العربية الشقيقة حكومة وشعبا على تنظيمها السابق للأسياد والمونديال بشكل نفاخر به كلنا كعرب ومسلمين وخليجيين إلى أبد الآبدين.