من يقرأ التاريخ بتدبر يكتشف أن الأفراد يتصفون بالذكاء إذا تعاملوا مع قضايا لا تخصهم أو لا تهمهم، فإذا تعاملوا مع قضاياهم فإنهم يتنازلون عن ذكائهم، فإنهم يضرون أنفسهم من حيث يريدون أن ينفعوها، لأنهم ببساطة يتعاملون مع القضايا التي لا تخصهم بعقل وعواطف محايدة، ومع قضاياهم ومصالحهم بعواطفهم التي يغلب عليها الحب والكره وبقية الأمنيات والمشاعر.
والمسألة لا تقتصر على الأفراد بل حتى على الحكومات عبر التاريخ، والتي عادة ما تدير شؤونها بحالة من الجودة الخاضعة للعقل الكلي أو الاعتباري الذي هو سلسلة التفكير الإيجابي الناتج عن توافق أعضاء هذه الحكومات من قيادات ومستشارين ومقربين، فإذا ما تحول هذا العقل الكلي أو الاعتباري إلى التفكير السلبي الناشئ عن مصالح وأحلام أصحاب القرار وأعضاء الحكومة والمقربين منهم فإن الحكومات تتخلى عن الذكاء وتستبدله بغباء مفرط يدمر الدول ومصالح الشعوب.
ولعل الفشل المزمن للحكومات المتعاقبة في أي دولة يجعلها توجه الناس إلى التغني بالمجد التليد والماضي المشرق للهروب من الاعتراف بالفشل، وغالباً ما يكون المجد الموروث غير حقيقي وناشئاً عن تزوير التاريخ المكتوب بأقلام الحكومات القديمة ومأجوريها، فالتاريخ لا يكتبه المنتصرون كما يشاع، بل يكتبه الذين يدفعون أكثر والذين يتحلّون بضمير أقل حتى إن كانوا مهزومين، ولذا فإن كتابة التاريخ غالباً ما تقوم على قلب الحقائق من خلال تجاهل ما حدث وكتابة ما لم يحدث في خدمة من يدفع وضد من لا يدفع، وهكذا فإن التاريخ دائماً ما يتحدث عن شخصيات وحالة عامة سادت ولا يتحدث عن نمط حياة الإنسان البسيط وعلاقته بالسلطة، فالتاريخ دوماً يركز على عظمة السلطة التي تدفع، ويتجاهل مآسي المواطن البسيط لأنه لا يدفع.
ونحن اليوم مثلاً نرى حجم الجريمة التي يرتكبها الصهاينة بحق الشعب الفلسطيني الأعزل وعجزهم عن تحقيق نصر حقيقي ضد المقاتل الفلسطيني، ومع ذلك نرى كيف ينال المجرم نتنياهو التصفيق الحار والدعم والإشادة في الكونغرس وكأنه الضحية وضحاياه المجرمون.
إن المسألة برمتها لم تكن يوماً حكومات تعمل وفق معايير خاضعة للانضباط الأخلاقي والقيمي والخدمي، لكنها كانت وما زالت عصابات يقودها مجرمون تجمعهم مصالح مشتركة وعدو مشترك هو الإنسان المبدئي أينما وجد، ولذلك فإن التصفيق الحار لنتنياهو والتغطية الإعلامية الكبيرة له يبقيان ضمن دائرة تزوير التاريخ وضمن فكرة العصابة التي تفر إلى الأمام لأنها خائفة من المصير الأسود، فلو أوقف نتنياهو حربه الإجرامية على غزة فسيقال له (قل لنا إلى أين أخذتنا)، وبالمثل سيقال لكل الحكومات التي دعمته، فالمسألة برمتها مجد زائف يبنى على دماء الضحايا، ثم يكتشف المجرمون في منتصف الطريق أنهم تجاوزوا كل حواجز الأخلاق والقيم ولم يعد أمامهم إلا الاستمرار في الجريمة، ولذا فإن السير باتجاه المجهول خيارهم الاستراتيجي الوحيد للهروب من الحساب، وأما مبررات الاستمرار في الجريمة فإن التاريخ الذي يكتبه الذين يدفعون أكثر ولديهم ضمير أقل، كفيل بتزويرها كعادته منذ بدء التزوير.