في ظلال الإسلام:: العدل السياسي والاجتماعي إحياء وتجديد للخطاب الديني في الدستور الكويتي (1-2)
الإسلام دين الدولة
نصت المادة الثانية من الدستور الكويتي على أن: «الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع»، وهو نص أصبح نصاً تقليدياً في دساتير الدول الإسلامية التي خرجت من عباءة حكم الإمبراطورية العثمانية، ومن عباءة الاحتلال البريطاني أو الفرنسي التي كانت خاضعة لانتداب الدولة الفرنسية، بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، ولم يكن في هذه الدساتير أو أغلبها إلا شكلاً غير مضمون أو محتوى، فضلاً عن غرابته، لأن الأصل أن الدول باعتبارها أشخاصاً اعتبارية عامة ليس من خواصها أن يكون لها دين سواء كان إسلامياً أو مسيحياً أو يهودياً، لأن العقيدة الدينية ترتبط بالشخص الطبيعي وهو الإنسان.
إلا أن الدستور الكويتي أخرج هذه المادة من دائرة الابتذال المضروبة حولها والمخلوقة لها في أغلب الدول الإسلامية، التي يدين أغلب مواطنيها بالدين الإسلامي، عندما حقق دستور الكويت العدل السياسي والاجتماعي في آن واحد، وهو ما لم يتحقق لأي دستور على مدى العصور، فدساتير الدول الرأسمالية، قامت على أساس الحرية السياسية فضلاً عن الحرية المطلقة لرأس المال والعمل ورؤية اجتماعية متكاملة لحقوق الإنسان الاجتماعية والاقتصادية.
ودساتير الدول الاشتراكية حسمت الصراع الطبقي من خلال تقرير حقوق الطبقة العاملة (البروليتاريا)، دون أن تلقي بالاً إلى الحقوق السياسية للأفراد، والتعددية السياسية، فتحولت إلى طغيان حكم الحزب الواحد، أما الإسلام فقد كان جوهر الحكم فيه هو الجمع بين العدل السياسي والعدل الاجتماعي، فقام نظام الحكم فيه على أساس الشورى والعدل والحرية والمساواة والإخاء، فضلاً عن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية التي كفلها الإسلام للفرد وللأسرة والمجتمع كله.
وهو ما تحقق في صدر الإسلام، سواء في عصر النبوة أو في عصر الخلافة الراشدة، وعلى الأخص في عهد سيدنا عمر بن الخطاب، الذي جمع بين العدل السياسي والعدل الاجتماعي معاً، في أبهى صورهما وجلالهما، حتى جاء ترتبيه الـ«51» في كتاب «الخالدون المئة»، لأعظم من أثروا التاريخ الإنساني، وأولهم محمد (ﷺ)، ولم يتحقق أي من العدل السياسي أو العدل الاجتماعي، سواء في العصر الأموي أو العصر العباسي أو العصر العثماني، فقد أهدر الحكم باسم الإسلام جوهر الدين، عدا فترات قصيرة في هذه العصور، أبرزها فترة أمير المؤمنين الأموي عمر بن عبدالعزيز التي لم تجاوز العامين وخمسة أشهر.
وجرى في دستور الكويت تجديد الخطاب الديني، من الناحيتين العدل السياسي، والعدل الاجتماعي، فجمع دستور الكويت بين هذين الجناحين معاً للحفاظ على الاستقرار في الحكم، وهو العمود الفقري الذي يقوم عليه الدستور، وهو ما سنعرضه فيما يلي:
العدل السياسي
وفي تجديد الخطاب الديني، جمع دستور الكويت، بين اصطلاحي الشورى والديموقراطية، فقد استهلت ديباجة الدستور خطابها، بالانطلاق من مبدأ استكمال أسباب الحكم الديموقراطي، فجمعت بينهما في صعيد واحد، هو بناء نظام الحكم في الكويت، وجاءت المادة (6) في الدستور لتقرر بأن الحكم في الكويت ديموقراطي، وأن الأمة مصدر السلطات جميعاً، تجسيداً لقول المولى عز وجل: «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ».
والواقع أن الاصطلاحين، الشورى والديموقراطية، هو من قبيل الترادف والتلاقي لا الصدام والخصام، فالشورى بمفهومها في الآية الكريمة: «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ»، هي حكم الأمة أو حكم الشعب، باللسان العربي، وكذلك الديموقراطية باللسان اليوناني، فهي تتكون من كلمتين في اللغة اليونانية، «حكم»... «الشعب».
ويستدل من الآية الكريمة في الشورى على دلالتين: الأولى، والمستفادة أصلاً من النص القرآني، هي أن السيادة للأمة، والثانية والمستفادة تبعاً للدلالة الأولى، وهي حق الاقتراع العام، والذي نصت عليه المادة (80) من الدستور حيث ساوى الإسلام بين الناس جميعاً، لا تمييز لأحدهم على الآخر، وقد ناضلت البشرية قرونا من أجل إقرار حق لاقتراع العام، حتى في أعرق النظم الديموقراطية وأقدمها في بريطانيا.
وجاءت البيعة في المادة الرابعة من الدستور، لولي العهد، ليكون الشيخ عبدالله سالم الصباح، أميراً للبلاد وقت وضع الدستور، ليسير الأمر بعد ذلك على هذه السنّة، في اختيار أمير البلاد فيتحقق الاستقرار في الحكم الذي هو العمود الفقري في الدستور كما جاء في استهلال مذكرته التفسيرية، وهي بيعة من ممثلي الشعب لمن يرشحهم الأمير، لولاية العهد، وهو ما يتفق مع البيعة التي سنت في صدر الإسلام، بتجديد الخطاب الديني في هذه البيعة، بأن يكون في ذرية المغفور له الشيخ مبارك الصباح، تحقيقاً قرره وتبناه الرعيل الأول لذي أقر الدستور وأقر مذكرته التفسيرية، وما استهلت به تصويرها لنظام الحكم من أن وحدة الوطن واستقراره هي الأصل في بناء العهد الجديد، وأنها العمود الفقري لهذا الدستور.
وتستطرد المذكرة فتقول: فلقد امتاز الناس في هذا البلد عبر القرون بروح الأسرة تربط بينهم كافة، حكاماً ومحكومين، ولم ينل من هذه الحقيقة ذات الأصالة العربية ما خلفته القرون المتعاقبة، في معظم الدول الأخرى من أوضاع مبتدعة ومراسم شكلية باعدت بين حاكم ومحكوم، ومن هنا جاء الحرص في الدستور الكويتي على أن يظل رئيس الدولة أباً لأبناء هذا الوطن جميعاً، يمارس صلاحياته الدستورية بواسطة وزرائه، إعمالاً لأحكام المادة (55) من الدستور، وهم مسؤولون أمامه، وفقا لأحكام المادة (131) في الدستور، وأمام مجلس الأمة في إطار منظومة الرقابة البرلمانية في المواد (99 و100 و102 و112 و113 و114) من الدستور.
وتتكامل نصوص الدستور في كفالة الحريات العامة في تعزيز حق الاقتراع العام، لتبدو جميعا متآلفة فيما بينها متجانسة في معانيها متضافرة في توجهاتها في تحقيق مبدأ الشورى، حيث كفل الدستور حرية الرأي وحق التعبير عنه مادة (36) وحرية الصحافة والطباعة والنشر مادة (37) وحرية المسكن مادة (38) وحرية المراسلات البريدية والهاتفية البرقية مادة (39) وهاتان المادتان تجسيدا لقوله تعالى «وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا»، وحرية تكوين الجمعيات والنقابات المادة (43) وحق الاجتماع مادة (44) ويعزز هذه الحريات والحقوق جميعا حق التعليم مادة (40) وحق العمل مادة (41) للكويتيين، وحظر فرض عمل إجباري على أحد مادة (42)، كما نصت المادة (29) من الدستور على أن الناس سواسية في الكرامة الإنسانية وجعلت الناس سواسية فيها، وهم متساوون أمام القانون في الحقوق والوجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين، وجاءت المادة (175) من الدستور لتغير مبادئ الحرية والمساواة مبادئ تعلو الدستور ذاته، لا يجوز اقتراح تنقيحها إلا لمزيد من ضماناتها.
ومن الجدير بالذكر، أن المشرع الدستوري في الكويت قنن نظرية المبادئ التي تعلو الدستور عام 1962، قبل أن يقررها القضاء الدستوري في العالم كله بعدة عقود.
تأتي قبل هذه الحقوق والحريات حرية العقيدة وحرية إقامة الشعائر الدينية التي كفلتها المادة (35) من الدستور تجسيداً لقول المولى عز وجل: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». (البقرة- 256)، ولعلها أهم من هذه الحريات جميعاً فهي ركيزة أساسية لها.
وللحديث بقية حول العدل الاجتماعي، والجناح الآخر للحكم في الإسلام، والجناح الآخر للتصور العام لنظام الحكم في الكويت.