قدمت لنا زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للولايات المتحدة لإلقاء كلمة أمام جلسة مشتركة للكونغرس الكثير لنستوعبه، كانت هذه هي الدعوة الرابعة من نوعها له، أكثر من أي زعيم عالمي آخر في التاريخ (متجاوزاً رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشرشل الذي عبر المحيط الأطلسي لإلقاء كلمة أمام الكونغرس في ثلاث مناسبات)، كما كانت الحال في الزيارات الثلاث السابقة، استخدم نتنياهو ورئيس مجلس النواب «الجمهوري» الذي قدم الدعوة، كل منهما الآخر لخدمة أغراضه الخاصة، فقد سعى رئيس مجلس النواب «مايكل جونسون» إلى استغلال خطاب نتنياهو لإحراج الرئيس بايدن وتعزيز جهود الحزب «الجمهوري» لجعل دعم إسرائيل «قضية خلافية» في الانتخابات المقبلة.

كان نتنياهو على استعداد تام للعب مع جونسون، نظراً لأنه ينظر منذ فترة طويلة إلى الحزب «الجمهوري» كشريك أكثر موثوقية لإسرائيل من المجتمع اليهودي الأميركي الأكثر ميلاً إلى الليبرالية، وهذا هو السبب الذي جعله على مدى العقود العديدة الماضية يتودد إلى زعماء الحزب «الجمهوري»، ويقبل ثلاث دعوات أخرى من الحزب «الجمهوري» لتحدي الرؤساء الديموقراطيين: كلينتون (بشأن عملية أوسلو) في عام 1995، وأوباما في عام 2011 (بشأن حدود عام 1967) وفي عام 2015 (بشأن الاتفاق النووي مع إيران).

Ad

وكان هدف آخر في حرص نتنياهو على التحدث إلى الكونغرس هو إظهار سيطرته على السياسة الأميركية أمام الجمهور الإسرائيلي الذي انقلب على حكمه، ربما أحرز جونسون نقطة نحو تحقيق هدفه، ولكن قد يتبين أن هذا النصر باهظ الثمن، فقد حضر «الجمهوريون» بقوة وحظوا بحفاوة بالغة أثناء خطابه الذي استمر ساعة.

ولكن الخطاب قاطعه أكثر من ربع «الديموقراطيين»، حيث جلس العديد من الحاضرين في صمت، رافضين الوقوف أو التصفيق، وعلى غرار الخطاب العنصري لمؤسس الصهيونية السياسية، افتتح نتنياهو تصريحاته واصفاً الصراع بأنه «صراع بين الهمجية والحضارة»، و«بين أولئك الذين يمجدون الموت وأولئك الذين يقدسون الحياة». ومثله كمثل هرتزل، وصف إسرائيل بأنها وكيل الغرب الذي يدافع عن مصالحه في الشرق الأوسط والوكيل الحضاري الذي من شأنه أن يحول المنطقة من «منطقة نائية من القمع والفقر والحرب إلى واحة مزدهرة من الكرامة والازدهار والسلام».

وكان الخيط المحافظ الجديد في تصريحات نتنياهو لافتاً للنظر أيضاً، ذلك أن الأيديولوجية السياسية التي وصلت إلى السلطة أثناء إدارة ريغان هي نسخة علمانية من نسخة خاصة من الفكر الإنجيلي المسيحي، وكلا الأيديولوجيتين تشتركان في خصائص المانوية: فهناك قوى الخير المطلق والشر المطلق في العالم، وليس من الممكن التوصل إلى تسوية بينهما فحسب، بل إن الصراع أمر حتمي وضروري، وإذا حاربناهما بكل التزام، فإن الخير سينتصر دائماً، وسيتم القضاء على الشر في نهاية المطاف، ففي عهد ريغان، كان الشر يُعرَّف بأنه الاتحاد السوفياتي وحلفاؤه، وفي نظر نتنياهو فإن مصدر كل الشر هو إيران وحلفاؤها.

ولا يمكن التوصل إلى تسوية، ويُنظَر إلى الدبلوماسية على أنها ضعف، وبالتالي فإن التماسه من حلفائه في الغرب والعالم العربي هو الانضمام إليه في هذه المعركة الكونية ضد الشر، مع التأكيد على أنه من خلال التصميم، يمكن تحقيق النصر والقضاء على الشر.

ولأن جو بايدن كان منذ أيامه الأولى في مجلس الشيوخ يتلقى التوجيه من أحد مهندسي المحافظين الجدد الأميركيين، فقد شعر نتنياهو أن لديه حليفا يتمثل بالرئيس الأميركي، ولكن مع تنحي بايدن عن منصب مرشح الحزب الديموقراطي للرئاسة للنائبة الرئيس كامالا هاريس، انتهت زيارة نتنياهو إلى واشنطن بملاحظة مريرة، فبدلاً من العناق الدافئ الذي اعتاد أن يتلقاه من بايدن، كان استقبال هاريس أكثر تحفظاً. وبعد اجتماعهما، بدلاً من الظهور المشترك، تحدثت هاريس للصحافة وحدها، وفي حين أكدت على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، أضافت أن الطريقة التي تدافع بها إسرائيل عن نفسها هي ما يهم، ثم بذلت جهداً كبيراً لوصف التكاليف الرهيبة التي تكبدتها الأرواح البشرية والمعاناة نتيجة للحرب في غزة. وأوضحت أن الصراع لابد أن ينتهي، وأن الفلسطينيين في احتياج إلى مستقبل يضمن لهم الحرية وتقرير المصير، وبهذا رفضت ضمناً دعوة نتنياهو إلى تحقيق «النصر الكامل»، في حين أشارت بشكل مباشر أيضاً إلى أنها لم تكن خائفة من تحدي الحزب الجمهوري لجعل دعم إسرائيل بقيادة نتنياهو «قضية مثيرة للخلافات» في هذه الانتخابات.

لقد كشفت الزيارة عن حقيقة مفادها أن الناخبين الأميركيين منقسمون بشدة بشأن هذه القضية، فالأمر لا يتعلق برفض إسرائيل، بل إن فكرة الدعم غير المشروط لإسرائيل بغض النظر عما تفعله، هي التي تم رفضها.

وكما قالت هاريس في تصريحاتها بعد الاجتماع، لم يعد من الصحيح أن ننظر إلى هذا الصراع باعتباره «اختياراً ثنائياً»، فهناك احتياجات على الجانبين يجب تلبيتها ويمكن تلبيتها على أفضل وجه من خلال السلام والدبلوماسية، بهذا غادر نتنياهو واشنطن وقام برحلة إلى «مار إيه لاجو» للقاء المرشح الرئاسي الوحيد الذي يشاطره إيمانه بـ«النصر الكامل»، دونالد ترامب.

* رئيس المعهد العربي الأميركي في واشنطن.