بعد نصف قرن من العيش في ظلال النظام الديموقراطي لا يزال أغلبنا أسيراً لتقاليد الماضي وموروث الأمس، الذي يتعارض ونظامنا السياسي، ويتناقض مع الظواهر والأسس الإنسانية لهذا العصر.
تأبين إسماعيل هنية أو غيره، قضية شخصية معني بها المؤبنون، ولا أحد غيرهم. لا تلزم أحداً بالبكاء عليه، ولا تفرض رسوماً بذكراه، ولا «تسكر» شارعاً أو حتى تعطل سيراً. فما الذي حرَّك البعض ودفع حكومتنا إلى تجاوز مبادئ النظام الديموقراطي والعصف بالدستور ومنع فعاليات التأبين؟
إنه التنمر، الأنا وشبق اضطهاد الغير أو الأضعف... وليس أي شيء آخر. بقايا المجتمعات القديمة المتخلفة، وتقاليد وإرث عصور الرجعية والظلام هي التي حرَّكت حكومتنا وتوابعها، وزيّنت لها اضطهاد الغير، وكبت حرية مَنْ لا حول ولا قوة له.
يتدثر المعترضون بدماء الشهداء، ويتخفون خلف آلام ومعاناة ذويهم في تبرير رغبتهم وحرصهم على منع تأبين أو تعظيم إسماعيل هنية، بحجة أن حركة حماس أيَّدت الاحتلال العراقي، أو هي ربما لم تعترض عليه. هذا حدث قبل عقود، وموقف «حماس» ليس مؤكداً، وفوق هذا إسماعيل هنية لم يكن زعيماً ولا حتى قيادياً في ذلك الوقت.
حكومتكم التي منعت تأبين إسماعيل هنية هي الحكومة أو امتدادها الذي استقبل أحمد ياسين ورز الإخوان المسلمين في مؤتمر جدة، وقربهم إلى الحكم منذ التحرير، وحتى هذا اليوم. لكن، والله أعلم، فإن تأبين هنية أقل خطورة عند البعض من الهيمنة على مفاصل الدولة والسيطرة على «التربية» والتعليم.
لست على علم باتجاهات ومواقف كل الشهداء الذين يتعذر المناوئون للتأبين بهم وبأشجان ذويهم. لكن لديَّ ثقة بأن أغلبهم سيكون سعيداً وداعماً للتأبين أو معترضاً عليه، بل لديَّ قناعة بأن الصديق الشهيد مبارك النوت كان سيتحدى المنع والاضطهاد ويؤبن ربما منفرداً إسماعيل هنية، تماماً كما تحدى المنع والاضطهاد أيام الاحتلال.
الإخوة المواطنون الذين سعدوا وابتهجوا بانتصارهم، وتسابقوا في تسجيل براءة منع التأبين، عليهم أن يعلموا أن إطلاق يد السُّلطة في القمع والمنع ليس له حدود، وإذا طال غيرك اليوم، فسوف يطولك غداً.