«لاَ تُعَلِّم اليَتِيمَ البُكَاء»، وهل هناك من يتيمٍ يحتاج لمن يعلمه البكاء؟

إنه مثل عربي قديم قاله زهير بن جناب الكلبي، عندما أغار علقمة بن ثعلبة على بني كنانة وهم بعُسْفان، فَقتل عبدالله بن هُبَل، وعُبيدة بن هُبَل، ومالك بن عبيدة، وصُريم بن قيس بن هُبَل، وأسر مالك بن عبدالله بن هُبَل.

Ad

فقال زهير: فلما أُصيبوا، وأفلت مَن أفلت، أقبلت جارية من بني عبدالله بن كنانة، فقالت لزهير، ولم تكن قد شاهدت الواقعة: يا عماه، ما ترى فعل أبي؟ قال: وعلى أي شيء كان أبوك، قالت: على شقَّاء ومقَّاء، طويلة الأنقاء، تمَطَّقُ بالعَرَقِ، تمَطُّقَ الشيخ بالمرق، قال: نجا أبوك، ثم أتته أخرى، فقالت: يا عماه، وما ترى فعل أبي؟ قال: وعلى أي شيء كان أبوك؟ قالت: على طويل بطنُها، قصيرٍ ظهرُها، هاديها شطرُها، يكُبُّها حُضرُها، قال: نجا أبوك.

ثم أتته بنت مالك بن عبيدة بن هبل، فقالت: يا عماه، ما ترى فعل أبي؟ قال وعلى أي شيء كان أبوك؟ قالت: على الكزّة الأنُوح، التي يكفيها لبن لقوح، قال: هلك أبوك، قال زهير: فبكت، فقال رجل: ما أسوأ بُكاها، فقال زهير: «لاَ تُعَلِّم اليَتِيمَ البُكَاء»، فذهب ما قاله مثلاً.

وهذه معانٍ لفك غموض وطلاسم بعض ما قِيل من مفردات ذلك الحوار الشيق، فالشقَّاء: الطويلة، والمقَّاء: إتباع، فيقال: أشقّ أمقّ، والكزَّةُ: الضيِّقة مخارج النَّفَس، والأنُوحُ: التي تنح من الكرب، والنقِيُّ المُخّ: كل عظمٍ فيه مخ، ومن فهم ما قالوه وفسّروه فليعنّا عليه.

يبدو أن هذا المثل يُقال الآن لمن يبدأ بالنواح والعويل ما إن يخبره أحدهم بما يكدّره، فلا يكاد يتمالك نفسه عن إزعاج من حوله، فعندها يلام لمن كان السبب في ذلك، فيقال له: «لاَ تُعَلِّم اليَتِيمَ البُكَاء».

الجميل في هذه الحادثة هو ذلك الحوار الشيق الذي دار بين الفتيات الثلاث وبين علقمة قاتل وآسر آبائهن، فاستعمالهن للمفردات العربية في وصف آبائهن كانت صعبة وعصية الفهم علينا، وهذا يدل على غزارة لغتهن، وتمكنهن منها بطلاقة وسلاسة، رغم أنهن كُن في أسوأ وأحلك أوقاتهن.