في ظلال الإسلام: الإسلام السياسي والاجتماعي إحياء وتجديد للخطاب الديني في الدستور الكويتي (2-2)
العدل السياسي
تناولت في مقال الأحد الماضي، أن الإسلام وحده الذي جمع بين العدل السياسي والعدل الاجتماعي باعتبارهما جناحين للحكم في الإسلام، من بين كل أنظمة الحكم في العصور القديمة أو في أنظمة الحكم الحديثة والمعاصرة، وأن دستور الكويت، كان ومازال، أول دستور يجمع بين هذين الجناحين، وبسطنا في هذا المقال، كيف جمع دستور الكويت بين مبدأ الشورى وبين الحكم الديموقراطي لا باعتبارها بديلين أو متناقضين، أو عدوين، وقد شهر البعض من المتزمتين في المجتمعات الإسلامية سلاح العداء للديموقراطية واعتبرها شركاً وكفراً، بل جمع بين الشورى والديموقراطية، باعتبارهما مكوناً واحداً، وأن الشورى هي النبتة الأولى للديموقراطية تتفرع عنها ومنها كل أنظمة الحكم الديموقراطي السليم، ومبدأ سيادة الأمة.
ونتناول في مقال اليوم العدل الاجتماعي، حيث قنن الدستور الكويتي المبادئ الإسلامية الرفيعة في العدل الاجتماعي في الإسلام بدءاً بنص المادة الأولى منه التي نصت على أن الكويت جزء من الأمة العربية، وهي الأمة التي نزل فيها القرآن الكريم بلسان عربي، هدى للعالمين، لينشر، فضلاً عن العدل السياسي إنقاذاً للبشرية من الطواغيت، العدل الاجتماعي.
وجاءت المادة الثانية من الدستور لتنص على أن: «دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع»، وفي تفسير المذكرة التفسيرية للدستور لأحكام هذه المادة تقرر أن هذا النص: «وقد قرر أن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي التشريع، إنما يحمل المشرع أمانة الأخذ بأحكام الشريعة ما وسعه ذلك، ويدعوه إلى هذا النهج دعوة صريحة واضحة».
وتستطرد المذكرة التفسيرية فتقرر: «ووضع النص بهذه الصيغة توجيه للمشرع وجهة إسلامية أساسية دون منعه من استحداث أحكام من مصادر أخرى في أمور لم يضع الفقه الإسلامي حكماً لها، أو من المستحسن تطوير الأحكام في شأنها تماشياً مع ضرورات التطور الطبيعي على مر الزمن».
ومؤدى هذا النص في ضوء تفسير هذه المذكرة وهو تفسير ملزم، أن الدستور يجمع في هذا النص بين الأصالة والمعاصرة في التشريع، فجعل الشريعة الإسلامية مصدراً رئيساً للتشريع، ولم يمنعه من استحداث أحكام في أمور لم يضع الفقه الإسلامي حكماً لها، أو من المستحسن تطوير الأحكام في شأنها تماشياً مع ضرورات التطور الطبيعي للحياة والزمن، بل يدعوه إلى ذلك الأمر الأخير دعوة صريحة فيما تنص عليه المادة (12) من الدستور من أن «الدولة تصون التراث الإسلامي، وتسهم في ركب الحضارة الإنسانية».
استحداث أحكام من مصادر أخرى
والدستور بهذا النص يحمّل المشرع أيضاً أمانة أخرى إلى جانب صون التراث الإسلامي، وهي استحداث أحكام من مصادر أخرى في أمور لم يضع الفقه الإسلامي حكماً لها، أو تطوير أحكامه تماشياً مع تطور الحياة الطبيعية، وهي المعاصرة، بإسهام الدولة في ركب الحضارة الإنسانية وفقاً لأحكام المادة (12) من الدستور فهو نص يرتبط ارتباطاً وثيقاً بنص المادة (2) من الدستور سالفة الذكر في الجمع بين الأصالة والمعاصرة، في تناغم بديع وتناسق رائع، ولم يكن ذلك غائباً عن الفقه الإسلامي في تحديده لمصادر الشريعة الإسلامية فاعتبر المصالح المرسلة مصدراً احتياطياً في مصادره العديدة بعد القرآن والسنة والإجماع والقياس.
كان هو الوجه الرئيس لتجديد الخطاب الديني، وهو الانفتاح على الآخر.
الدستور وثيقة لحقوق الإنسان
وتترى نصوص الدستور، وتتضافر في تحقيق العدل الاجتماعي، فتجمع المادة (7) بين العدل والحرية والمساواة، باعتبارها دعامات المجتمع الكويتي، ولتؤكد أن التعاون والتراحم، صلة وثقى بن المواطنين، ولتقرر المادة (16) أن الملكية ورأس المال والعمل مقومات أساسية لكيان الدولة الاجتماعي وللثروة الوطنية، وهي جميعاً حقوق فردية ذات وظيفة اجتماعية يحددها القانون.
واعتبرت المادة (13) التعليم ركناً أساسياً في تقدم المجتمع، كما اعتبرت المادة (41) العمل حقاً لكل كويتي، وواجباً عليه تقتضيه الكرامة، ويستوجبه الخير العام، وتقوم الدولة على توفيره للمواطنين وعلى عدالة شروطه.
وحظرت المادة (42)، كأصل عام، فرض عمل إجباري على أحد، وكفلت المادة (17) حرمة المال العام، وجعلت حمايته واجباً على كل مواطن، وصانت المادة (18) الملكية الخاصة، واعتبرت الميراث حقاً تحكمه الشريعة الإسلامية.
كما تبوأت الشريعة الإسلامية مكانها الرفيع في الدستور، لتصبح مصدراً رئيسياً من مصادر التشريع الكويتي، لتواجه المصادر الأخرى، شأنها في ذلك شأن المصالح المرسلة باعتباره أحد مصادر التشريع الإسلامية، وتبوأت العدالة الاجتماعية مكانتها الرفيعة باعتبارها الإطار الذي يحكم كثيراً من العلاقات التي أشار الدستور إلى تنظيمها فهي أساس الاقتصاد الوطني مادة (20)، ومقتضيات هذا الاقتصاد واجبة المراعاة في حسن استغلال الثروة الطبيعية مادة (21)، والعدالة الاجتماعية أساس الضرائب والتكاليف العامة مادة (24)، والعدالة الاجتماعية واجبة المراعاة في تنظيم علاقة العمال بأصحاب العمل، وفي تنظيم العلاقات التجارية مادة (22)، وتكفل الدولة تضامن المجتمع في تحمل الأعباء الناجمة عن الكوارث والمحن العامة مادة (25)، وتعهد المادة (11) من الدستور بكفالة المعونة للمواطنين في حالة الشيخوخة أو المرض أو العجز عن العمل، كما توفر لهم خدمات التأمين الاجتماعي والمعونة الاجتماعية والرعاية الصحية.
والدين والأخلاق وحب الوطن قوام الأسرة التي هي أساس المجتمع يحفظ القانون كيانها، ويقوي أواصرها ويحمي في ظلها الأمومة والطفولة مادة (9)، وترعى الدولة النشء وتحميه من الاستغلال وتقيه الإهمال الأدبي والجسماني والروحي مادة (10).
كما ألزم الدستور الدولة بصون التراث الإسلامي والعربي مادة (12)، واعتبر التعليم ركناً أساسياً لتقدم المجتمع تكفله الدولة وترعاه مادة (13).
وألزم الدستور الدولة برعاية العلوم والآداب والفنون وتشجيع البحث العلمي مادة (15)، وألزم الدستور الدولة بالعناية بالصحة العامة وبوسائل الوقاية والعلاج من الأمراض والأوبئة مادة (15).
كما كان الدستور الكويتي، هو أول وثيقة لحقوق الإنسان السياسية بعد الحرب العالمية الأولى، وكان كذلك أول وثيقة لحقوق الإنسان الاجتماعية والاقتصادية، حيث لم يتم إقرار هذه الحقوق دولياً إلا بعد ذلك، فقد أقرت الأمم المتحدة الاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في جمعيتها العامة المنعقدة بتاريخ 16/12/1966.
من وحي الإسلام
وانطلق دستور الكويت في إقرار الحقوق الاقتصادية والاجتماعية سالفة البيان من وحي الإسلام في الحرية الشخصية التي كفلها في أول حرياته حين قرر أنه لا إكراه في الدين، وحين أقر حرمة المسكن، في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» سورة النور (27)، وفي حماية سرية المراسلات في قوله سبحانه: «ولَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا»، وفي حرية العمل والكسب في قوله سبحانه: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» (15) سورة الملك، وقد سأل الرسول (ﷺ)، الناس عن رجل عابد زاهد لا يترك المسجد مَنْ ينفق عليه، فقالوا: كلنا، فرد عليهم (ﷺ): كلكم خير منه.
كما أقر الدستور حرية التملك، ملكية فردية وليست ملكية جماعية، مقيدة وليست مطلقة بأن فرض عليها القيود لمصلحة الجماعة، وهي الوظيفة الاجتماعية التي أقرها الدستور الكويتي في المادة (16)، في قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (103) سورة التوبة، ويقول سبحانه: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» (177) سورة البقرة.
وقد ربط الإسلام بين الزكاة والعبادات جميعاً من صلاة وصوم وحج، فأوجب غير زكاة المال في مصارفها الأساسية زكاة الفطر وغيرها، وقد اتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها، إذ يقول تعالى: «وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ».
وللزكاة مصارف كما في قوله تعالى: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»، ولهؤلاء وأولئك جميعاً حقوق من غير مال الزكاة لا تتقيد بزمن، ولا بامتلاك نصاب.
وتعتبر نظرية العدالة الاجتماعية من أهم النظريات السياسية في الفكر الإسلامي، وهي ذات مفهوم واسع يشمل جميع جوانب الحياة، (يراجع في هذه النظرية كتاب «نظام الحكم في الإسلام» للدكتور محمد فاروق النبهان، كلية الحقوق والشريعة/ جامعة الكويت)
حيث لا يتسع المقال لتناول مجالاتها وأهدافها سواء في مجال الأسرة أو في مجال المجتمع، وأثرها في إيجاد التوازن المادي بين طبقات المجتمع، والتي أفاض الدكتور النبهان في شرحها.