العدل السياسي

تناولت في مقال الأحد الماضي، أن الإسلام وحده الذي جمع بين العدل السياسي والعدل الاجتماعي ‏باعتبارهما جناحين للحكم في الإسلام، من بين كل أنظمة الحكم في العصور القديمة أو في أنظمة الحكم ‏الحديثة والمعاصرة، وأن دستور الكويت، كان ومازال، أول دستور يجمع بين هذين الجناحين، وبسطنا في ‏هذا المقال، كيف جمع دستور الكويت بين مبدأ الشورى وبين الحكم الديموقراطي لا باعتبارها بديلين أو ‏متناقضين، أو عدوين، وقد شهر البعض من المتزمتين في المجتمعات الإسلامية سلاح العداء للديموقراطية ‏واعتبرها شركاً وكفراً، بل جمع بين الشورى والديموقراطية، باعتبارهما مكوناً واحداً، وأن الشورى هي النبتة ‏الأولى للديموقراطية تتفرع عنها ومنها كل أنظمة الحكم الديموقراطي السليم، ومبدأ سيادة الأمة.‏

Ad

ونتناول في مقال اليوم العدل الاجتماعي، حيث قنن الدستور الكويتي المبادئ الإسلامية الرفيعة في العدل الاجتماعي في الإسلام بدءاً بنص المادة ‏الأولى منه التي نصت على أن الكويت جزء من الأمة العربية، وهي الأمة التي نزل فيها القرآن الكريم ‏بلسان عربي، هدى للعالمين، لينشر، فضلاً عن العدل السياسي إنقاذاً للبشرية من الطواغيت، العدل ‏الاجتماعي.‏

وجاءت المادة الثانية من الدستور لتنص على أن:‏ «دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع»، وفي ‏تفسير المذكرة التفسيرية للدستور لأحكام هذه المادة تقرر أن هذا النص: «وقد قرر أن الشريعة الإسلامية ‏مصدر رئيسي التشريع، إنما يحمل المشرع أمانة الأخذ بأحكام الشريعة ما وسعه ذلك، ويدعوه إلى هذا ‏النهج دعوة صريحة واضحة».‏

‏ وتستطرد المذكرة التفسيرية فتقرر: «ووضع النص بهذه الصيغة توجيه للمشرع وجهة إسلامية أساسية ‏دون منعه من استحداث أحكام من مصادر أخرى في أمور لم يضع الفقه الإسلامي حكماً لها، أو من ‏المستحسن تطوير الأحكام في شأنها تماشياً مع ضرورات التطور الطبيعي على مر الزمن».

ومؤدى هذا ‏النص في ضوء تفسير هذه المذكرة وهو تفسير ملزم، أن الدستور يجمع في هذا النص بين الأصالة ‏والمعاصرة في التشريع، فجعل الشريعة الإسلامية مصدراً رئيساً للتشريع، ولم يمنعه من استحداث أحكام ‏في أمور لم يضع الفقه الإسلامي حكماً لها، أو من المستحسن تطوير الأحكام في شأنها تماشياً مع ‏ضرورات التطور الطبيعي للحياة والزمن، بل يدعوه إلى ذلك الأمر الأخير دعوة صريحة فيما تنص عليه ‏المادة (12) من الدستور من أن «الدولة تصون التراث الإسلامي، وتسهم في ركب الحضارة الإنسانية».‏

استحداث أحكام من مصادر أخرى

‏ والدستور بهذا النص يحمّل المشرع أيضاً أمانة أخرى إلى جانب صون التراث الإسلامي، وهي ‏استحداث أحكام من مصادر أخرى في أمور لم يضع الفقه الإسلامي حكماً لها، أو تطوير أحكامه تماشياً مع ‏تطور الحياة الطبيعية، وهي المعاصرة، بإسهام الدولة في ركب الحضارة الإنسانية وفقاً لأحكام المادة (12) ‏من الدستور فهو نص يرتبط ارتباطاً وثيقاً بنص المادة (2) من الدستور سالفة الذكر في الجمع بين ‏الأصالة والمعاصرة، في تناغم بديع وتناسق رائع، ولم يكن ذلك غائباً عن الفقه الإسلامي في تحديده ‏لمصادر الشريعة الإسلامية فاعتبر المصالح المرسلة مصدراً احتياطياً في مصادره العديدة بعد القرآن ‏والسنة والإجماع والقياس.‏

كان هو الوجه الرئيس لتجديد الخطاب الديني، وهو الانفتاح على الآخر.‏

الدستور وثيقة لحقوق الإنسان

وتترى نصوص الدستور، وتتضافر في تحقيق العدل الاجتماعي، فتجمع المادة (7) بين العدل والحرية ‏والمساواة، باعتبارها دعامات المجتمع الكويتي، ولتؤكد أن التعاون والتراحم، صلة وثقى بن المواطنين، ولتقرر المادة (16) أن الملكية ورأس المال ‏والعمل مقومات أساسية لكيان الدولة الاجتماعي وللثروة الوطنية، وهي جميعاً حقوق فردية ذات وظيفة ‏اجتماعية يحددها القانون.‏

واعتبرت المادة (13) التعليم ركناً أساسياً في تقدم المجتمع، كما اعتبرت المادة (41) العمل حقاً لكل ‏كويتي، وواجباً عليه تقتضيه الكرامة، ويستوجبه الخير العام، وتقوم الدولة على توفيره للمواطنين وعلى ‏عدالة شروطه.‏

وحظرت المادة (42)، كأصل عام، فرض عمل إجباري على أحد، وكفلت المادة (17) حرمة المال ‏العام، وجعلت حمايته واجباً على كل مواطن، وصانت المادة (18) الملكية الخاصة، واعتبرت الميراث حقاً ‏تحكمه الشريعة الإسلامية.‏

كما تبوأت الشريعة الإسلامية مكانها الرفيع في الدستور، لتصبح مصدراً رئيسياً من مصادر التشريع ‏الكويتي، لتواجه المصادر الأخرى، شأنها في ذلك شأن المصالح المرسلة باعتباره أحد مصادر التشريع ‏الإسلامية، وتبوأت العدالة الاجتماعية مكانتها الرفيعة باعتبارها الإطار الذي يحكم كثيراً من العلاقات التي ‏أشار الدستور إلى تنظيمها فهي أساس الاقتصاد الوطني مادة (20)، ومقتضيات هذا الاقتصاد واجبة ‏المراعاة في حسن استغلال الثروة الطبيعية مادة (21)، والعدالة الاجتماعية أساس الضرائب والتكاليف ‏العامة مادة (24)، والعدالة الاجتماعية واجبة المراعاة في تنظيم علاقة العمال بأصحاب العمل، وفي ‏تنظيم العلاقات التجارية مادة (22)، وتكفل الدولة تضامن المجتمع في تحمل الأعباء الناجمة عن ‏الكوارث والمحن العامة مادة (25)، وتعهد المادة (11) من الدستور بكفالة المعونة للمواطنين في حالة ‏الشيخوخة أو المرض أو العجز عن العمل، كما توفر لهم خدمات التأمين الاجتماعي والمعونة الاجتماعية ‏والرعاية الصحية.‏

والدين والأخلاق وحب الوطن قوام الأسرة التي هي أساس المجتمع يحفظ القانون كيانها، ويقوي أواصرها ويحمي في ظلها الأمومة والطفولة مادة (9)، وترعى الدولة النشء وتحميه من الاستغلال وتقيه الإهمال ‏الأدبي والجسماني والروحي مادة (10).

كما ألزم الدستور الدولة بصون التراث الإسلامي والعربي مادة (12)، واعتبر التعليم ركناً أساسياً لتقدم المجتمع تكفله الدولة وترعاه مادة (13).‏

وألزم الدستور الدولة برعاية العلوم والآداب والفنون وتشجيع البحث العلمي مادة (15)، وألزم الدستور ‏الدولة بالعناية بالصحة العامة وبوسائل الوقاية والعلاج من الأمراض والأوبئة مادة (15).‏

كما كان الدستور الكويتي، هو أول وثيقة لحقوق الإنسان السياسية بعد الحرب العالمية الأولى، وكان كذلك ‏أول وثيقة لحقوق الإنسان الاجتماعية والاقتصادية، حيث لم يتم إقرار هذه الحقوق دولياً إلا بعد ذلك، فقد أقرت الأمم المتحدة الاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في جمعيتها العامة ‏المنعقدة بتاريخ 16/12/1966.‏

من وحي الإسلام

وانطلق دستور الكويت في إقرار الحقوق الاقتصادية والاجتماعية سالفة البيان من وحي الإسلام في الحرية ‏الشخصية التي كفلها في أول حرياته حين قرر أنه لا إكراه في الدين، وحين أقر حرمة المسكن، في ‏قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ ‏خَيْرٌ ‏لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» سورة النور (27)، وفي حماية سرية المراسلات في قوله سبحانه: «ولَا تَجَسَّسُوا وَلَا ‏يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا»، وفي حرية العمل والكسب في قوله سبحانه: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا ‏فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» (15) سورة الملك، وقد سأل الرسول (ﷺ)، الناس عن رجل ‏عابد زاهد لا يترك المسجد مَنْ ينفق عليه، فقالوا: كلنا، فرد عليهم (ﷺ): كلكم خير منه.‏

كما أقر الدستور حرية التملك، ملكية فردية وليست ملكية جماعية، مقيدة وليست مطلقة بأن فرض ‏عليها القيود لمصلحة الجماعة، وهي الوظيفة الاجتماعية التي أقرها الدستور الكويتي في المادة ‏‏(16)، في قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ ‏لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ ‏عَلِيمٌ» (103) سورة التوبة، ويقول سبحانه: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ‏الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ‏وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى ‏حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ ‏السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ‏وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ‏وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ‏وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» ‏‏(177) سورة البقرة.‏

وقد ربط الإسلام بين الزكاة والعبادات جميعاً من صلاة وصوم وحج، فأوجب غير زكاة المال في ‏مصارفها الأساسية زكاة الفطر وغيرها، وقد اتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد ‏أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها، إذ يقول تعالى: «وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ».‏

وللزكاة مصارف كما في قوله تعالى: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»، ولهؤلاء ‏وأولئك جميعاً حقوق من غير مال الزكاة لا تتقيد بزمن، ولا بامتلاك نصاب.‏

وتعتبر نظرية العدالة الاجتماعية من أهم النظريات السياسية في الفكر الإسلامي، وهي ذات مفهوم ‏واسع يشمل جميع جوانب الحياة، (يراجع في هذه النظرية كتاب «نظام الحكم في الإسلام» للدكتور محمد فاروق ‏النبهان، كلية الحقوق والشريعة/ جامعة الكويت)‏

حيث لا يتسع المقال لتناول مجالاتها وأهدافها سواء في مجال الأسرة أو في مجال المجتمع، وأثرها ‏في إيجاد التوازن المادي بين طبقات المجتمع، والتي أفاض الدكتور النبهان في شرحها.