في كثير من البلدان، أصبحت الابتكارات والوظائف الجيدة تتركز على نحو متزايد في قِلة من الأماكن. كان أداء بعض المدن الكبرى مُرضياً، لكن كثيراً من المناطق تشعر بأنها تُرِكَت لتتخلف عن الركب. في الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وكثير من البلدان في أوروبا، وعلى نحو متزايد في أجزاء أخرى من العالم، أصبحت كيفية معالجة هذه الفوارق مسألة بالغة الأهمية.
منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008 على الأقل، أفضى الإحباط الواسع الانتشار إزاء الآفاق الاقتصادية الراكدة إلى تحفيز أشكال متزايدة الخطورة من الغضب في البلدان المتقدمة.
وفي كثير من الأحيان، أدى هذا إلى انتهاج سياسات اقتصادية مدمرة للذات مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو تعهد دونالد ترامب بجمع وترحيل جميع المهاجرين غير الشرعيين، وهي الخطوة التي ستؤدي على الفور إلى تقليص قوة العمل الأميركية بنحو 5%، ومن المرجح أن تتسبب في انكماش اقتصاد الولايات المتحدة الإجمالي بمقدار مماثل.
ولكن يظل لدينا طريق أفضل تماماً للمضي قدماً، كما يتضح من قانون الرقائق الإلكترونية والعلوم لعام 2022، الذي تغلب على قاعدة عرقلة مجلس الشيوخ الأميركي (المتطلب القائم فعليا الذي يستلزم أغلبية الثلاثة أخماس لكل التشريعات) وأُقِرّ بأغلبية 64 صوتاً مقابل 33 (بما في ذلك 17 جمهورياً).
سمح هذا القانون بتعزيز الدعم الفدرالي للبحث والعلوم، بهدف دعم الاختراقات العلمية عبر مجموعة عريضة من القطاعات. الأمر الحاسم هنا هو أن القانون اقترح أيضاً نشر هذا الدعم في مختلف أنحاء البلاد، بهدف إنشاء مراكز تكنولوجية من الجيل التالي.
ينطوي الابتكار والإبداع عادة على اختراقات تكنولوجية، وعلى مدار القرن الماضي كان لأكبر الاختراقات، بما في ذلك الرادار، والإلكترونيات الدقيقة، والأقمار الصناعية، والإنترنت، والتكنولوجيا الحيوية تأثيرات عميقة على مختلف قطاعات الاقتصاد. ولكن كما أوضحت أنا وجوناثان جروبر في كتابنا الصادر عام 2019 بعنوان «دفع عجلة أميركا» (Jump-Starting America) فإن الفوائد الكاملة (بما في ذلك امتدادات واسعة النطاق وغير متوقعة في كثير من الأحيان) لا تعود على أي شركة فردية أو مستثمر منفرد، ويرجع هذا على وجه التحديد إلى انتشار التأثير على نطاق واسع.
علاوة على ذلك، من الصعب دائماً تحديد العائد المالي الدقيق من الاختراقات التحويلة كَمّياً. ونتيجة لهذا، يفضل رأس المال الاستثماري والشركات الراسخة تجنب المخاطر الكامنة في العلوم الأساسية، والتطبيقات الأولية، وزيادة الأعمال في أسواق غير معروفة الجحم.
اليوم، على سبيل المثال، لا جدال في الأهمية الطاغية المحتملة للحوسبة الكمومية، لكن تردد القطاع الخاص في الولايات المتحدة في الاستثمار في هذا المجال يمثل قيداً رئيسياً، قيداً يخلق خطراً كبيراً يتمثل في تفوق قوى جيوسياسية أخرى على المزايا التي تتمتع بها أميركا حاليا.
أو لننظر إلى التصنيع الحيوي (استخدام مواد بيولوجية لصنع مختلف أشكال المنتجات)، الذي ترسخت المفاهيم الأساسية التي تحكمه. هنا أيضاً، لا يرغب القطاع الخاص في دعم التوسع. وفي مجال التصنيع المتقدم (الذي يشير في عموم الأمر إلى أشكال رقمية من التحكم في الآلات، والتي تُطَبَّقَ عبر عدد كبير من العمليات الصناعية)، تناضل الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم للعثور على وتبني نُسَخ محلية لما تحتاجه بعد ذلك.
الواقع أن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وأي عدد من البلدان الأوروبية الأخرى في احتياج ماس إلى تنفيذ استثمارات استراتيجية في تكنولوجيات أساسية، لخلق مزيد من الوظائف الجيدة، والحفاظ على سبقها لمنافسين جيوسياسيين عدوانيين على نحو متزايد.
من المؤكد أن اندفاع بلدان أخرى إلى اختراع المستقبل من شأنه أن يزيد الضغوط المفروضة على أي بلد ويحمله على التحرك بسرعة لكن هذا أمر طيب في عموم الأمر، وخاصة فيما يتصل بخلق الوظائف.
وما دمنا نخترع أشياء مفيدة وليس سلعاً ضارة اجتماعياً مثل التبغ، والوجبات السريعة والإعلان الرقمي، فمن المرجح أن يؤدي احتدام المنافسة على الاختراع إلى إشعال شرارة سباق نحو القمة.
أثناء مرحلة تنفيذ قانون الرقائق الإلكترونية والعلوم، خصصت إدارة التنمية الاقتصادية في الولايات المتحدة 31 مركزاً تكنولوجياً في 32 ولاية وبورتوريكو. وفي أوائل يوليو، أعلنت إدارة التنمية الاقتصادية عن تمويل بقيمة 504 ملايين دولار لمصلحة 12 مركزاً إقليمياً للتكنولوجيا والإبداع، «لتسريع نمو صناعات مبتكرة».
تُرى هل تنجح كل هذه المراكز؟ قد لا تنجح: ذلك أن مُلاحقة الإبداع الحقيقي عملية تنطوي على مخاطر حقيقية في نهاية المطاف. ويكاد يكون من المؤكد أن التمويل حتى الآن لا يكفي لإحداث تأثير حقيقي. لكن النبأ الأكبر هو أن كل أجزاء البلاد تقريبا تريد المشاركة في هذا العمل ولم تتقاعس سوى أربع ولايات عن الفوز بمنحة تطوير استراتيجي على الأقل.
على حد تعبير عضو مجلس الشيوخ ماريا كانتويل من واشنطن، وهي تتولى رئاسة لجنة التجارة والعلوم والنقل في مجلس الشيوخ، فيما يتصل بقانون الرقائق الإلكترونية والعلوم:
«نحن لا نعرف على وجه التحديد أي الابتكارات والإبداعات التي قد تنتج عن هذا، لكننا على يقين من أن أميركا ستصبح أكثر قدرة على المنافسة بسبب هذا. وسوف نتمكن من تنمية اقتصادنا في المستقبل، بسبب الاستثمارات التي ننفذها اليوم».
إذا كنا راغبين في خلق مزيد من الوظائف الجيدة، فلنستثمر في العلوم، ولنعمل على تسهيل تسويق التكنولوجيا الناتجة عنها، ولنيسر على الناس بناء الشركات حيث تُختَرَع المُنتَجات. نحن في احتياج إلى مزيد من التمويل ومزيد من الفِكر الاستراتيجي، ويرجع هذا جزئياً إلى حقيقة مفادها أن تكنولوجيات جديدة ستظل دوما في الأفق. لكن قانون الرقائق الإلكترونية والعلوم زودنا بخطوة بناءة كبرى إلى الأمام، وينبغي للدول الأخرى أن تنتبه إلى هذه الحقيقة.
* كبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي، وأستاذ في كلية سلون للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ورئيس مشارك في مجلس المخاطر النظامية لمعهد CFA. ومؤلف مشارك «مع دارون أسيموغلو» لكتاب «السلطة والتقدم: كفاحنا منذ ألف عام على التكنولوجيا والازدهار».
* سيمون جونسون