ليكن إصلاحاً ناجزاً ومستداماً
في خضم التحولات العالمية والتحديات الاقتصادية التي تواجهها الدول تبرز الكويت كدولة تسعى جاهدة إلى تحقيق التنمية المستدامة، وتحقيق رؤية تتسم بالازدهار والاستقرار، تتجلى هذه الرؤية في العهد الجديد الذي أكد أهمية العمل الجماعي والتكاتف بين الحكومة والمواطنين لتحقيق أهداف الإصلاح والتطوير، ومن هنا يظهر جلياً أن إشراك المواطنين في جهود الإصلاح ليس مجرد خيار بل هو ضرورة لتحقيق التقدم السريع والفعال. وقد أكد المصلحون في العالم أهمية إشراك الشعوب في صنع التغيير، مشددين على أهمية بدء الإصلاح من الفرد نفسه، وكان شعارهم «كن أنت التغيير الذي تريده للمجتمع».
وتشير التجارب إلى أن الكويتيين - سواء كانوا أفراداً أو مؤسسات أو شركات - لديهم الرغبة الكاملة في المساهمة في إصلاح بلدهم فور قناعتهم بالجدية في تبنيه وتطبيقه، ويدركون أن التغيير الإيجابي يبدأ بالالتزام بالقوانين ودعم الجهود الرامية إلى تعزيز الاستقرار وتحقيق التنمية. ومع ذلك نجد أن الكثير منهم يقع في مخالفات قانونية إما بسبب عدم العدالة في تطبيق القانون بالسنوات السابقة أو بسبب انفصال بعض القوانين عن الواقع إما لقدمها أو لعدم كفاية دراستها، وعليه تضطر الحكومة إلى أن تقوم بجهد مضاعف ومضن عبر مختلف جهاتها بتفعيل القرارات والتنظيمات التي لم تطبق أصلاً أو أن تطبيقها كان مشوباً بكثير من التسيب والإهمال والاستثناءات غير القانونية.
وعندما تقوم الجهات الرسمية بإنفاذ هذه التنظيمات خلال فترة زمنية قصيرة أو بشكل مفاجئ فإنها تواجه كماً هائلاً من المخالفات التي يفوق عددها وتشعباتها ما تستطيع استيعابه عبر مفتشيها وأجهزتها. ولنأخذ بعض الأمثلة على ذلك لنعرف حجم المشكلة: مخالفات أنظمة البناء في كل أنواع السكن الخاص والتجاري والاستثماري، وطرق إسكان العمالة، وشروط الإقامة، وكيفية استغلال المزارع وأراضي الدولة، ومعايير التراخيص الطبية والبيئية، وأنظمة الجمارك، واستخدام موارد الكهرباء والماء... وغيرها.
إن السبب في صعوبة التطبيق السريع للقرارات أنها تواجه كل فئات المواطنين سواء القلة القليلة التي تتعمد المخالفات واستمرأتها وتبحث عنها أو الفئة الكبرى التي عملت بما هو واقع وأصبح عرفاً متجذراً ومسكوتاً عنه من قبل أجهزة الدولة على مدى عقود، وهؤلاء عددهم كبير وكبير جداً، وقد يصعب عليهم الخروج منه سريعاً أو لأسباب المنافسة وارتفاع الكلفة والتطبيق غير العادل ولتحقيق الإصلاح بشكل فعال، ومما سبق نرى أن على الحكومة أن تتبنى آليات أكثر كفاءة لتطبيق القوانين المعطلة، فيجب ابتداء أن تحدد الجهة الرسمية القرارات والتنظيمات التي تحتاج إلى إنفاذ وتدرس وتقدر عبر جهود ميدانية – وليس مجرد مكتبية - حجم الواقع المخالف وتكلفة إصلاحه، سواء على المواطن أو على الدولة في المتابعة والرصد، وبناء على الدراسة تحدد فترة زمنية معقولة تتناسب مع تفعيل كل تنظيم أو قرار معطل، ثم تعلن للمواطنين أنها بصدد التطبيق الفعلي والصحيح لهذا القرار خلال هذه الفترة، وتقوم بالتوعية بذلك في مختلف قنوات التواصل الاجتماعي الحكومية والخاصة، ولنأخذ مثالاً إيجابياً على ذلك ما تقوم به وزارة الداخلية من إعطاء مهل زمنية محددة لتطبيق البصمة البيومترية أو فترات إجراء الصلح لمخالفي الإقامة.
كذلك يجب أن ترسل الجهات الرسمية للمواطنين رسائل مقنعة تبين أنها جادة ومستمرة في إنفاذ القانون لأن سوابق هذه الحملات المؤقتة كثيرة ومريرة على مدى عقود، حيث يأتي مسؤولون يركزون على تنظيمات معينة، ثم فجأة تهمل وتترك مع تغير المسؤول نفسه أو تغير الأولوية، فتكون النتيجة السلبية وهي عقاب من يصدّق ويلتزم بأنه دفع كلفة الإصلاح، بينما تكون ثواباً ومكافأة لمن صبر قليلاً حتى تتغير البوصلة الحكومية ولم يتكلف عبء الإلتزام بالقانون!
ولعل من أهم الرسائل والوسائل، الجلوس الشفاف والجاد من قبل الوزراء والوكلاء المعنيين مع مؤسسات المجتمع المدني وممثلي النقابات والاتحادات ذات الصلة لإيصال روح الجدية من جانب ولسماع وجهات نظرهم من جانب آخر، إذ سيجد المسؤولون أن كثيراً من هذه التنظيمات والقرارات تكون منفصلة عن الواقع، وبالتالي فإن تعديلها وتصويبها مسبقاً أمر مهم ليتسنى إنفاذها بالشكل الصحيح الذي يبني ولا يهدم، ولننظر كمثال ما حصل في التعميم الخاص بالمادة 19 الصادر من وزارة التجارة.
إن مجرد قيام الأجهزة الرسمية – كل فيما يعنيه – بتطبيق هذه الآلية سنجد أن 90% من المخالفات سيتصدى لها المواطن (فردا كان أو مؤسسة) بالإصلاح والتعديل طوعاً لا كرهاً وبروح إيجابية مما يترك لأجهزة التفتيش والمتابعة الحكومية المجال والفسحة الكافية للتعامل مع الـ10% غير الملتزمين، والذين يستحقون مختلف درجات المحاسبة والعقاب.
إن وضع برنامج مستقبلي جاد في إصلاح الممارسات والأعراف غير السوية التي تجذرت في مناحي أجهزة الدولة والمجتمع سيمكن القيادة السياسية ممثلة في مجلس الوزراء والوزراء أنفسهم من بث روح الجد والاجتهاد في تطبيق القانون وتحقيق الإصلاح الإداري والمالي عبر كل أجهزة الدولة ومواطنيها، بدلاً من اقتصارها على شخوص ووزراء أنفسهم. وبالتالي خطر عدم الاستمرار بها إذا تغير شخص الوزير، فالتطبيق المدروس والجاد ذو النفس الطويل والحاسم أفضل أثراً على المدى البعيد من التطبيق الشديد قصير الأجل، كما أن القدرة على التنبؤ المسبق بتبعات بعض الإجراءات الإصلاحية لدرء مفاسدها الآتية هو من أبرز مميزات الإدارة الحصيفة والتطبيق المتدرج طويل الأجل.
أقول ذلك وقد زاملت سمو الرئيس ست سنوات في مجلس الوزراء، وأعلم مقدار حرصه على إنفاذ القانون، والالتزام بقواعده بكل شفافية، وكذلك انفته من تخطي حقوق الناس بالوساطة والمحسوبيات إذا ما حدثت.
*وزير الصحة الأسبق