التحقت بشركة نفط الكويت سنة 1970، عندما كانت مثالاً للالتزام المهني الحقيقي. كانت ساعات الدوام الرسمي من السابعة صباحاً حتى الرابعة عصراً، ومن السابعة حتى الثالثة لمَن يعملون في الحقول.

مهنياً، اعتبرت تلك الشركة مفخرة بموظفيها، وبخبراتها الإدارية والعملياتية، فالكل كان يعمل فيها بجد واجتهاد والتزام بساعات العمل لا مثيل له، ابتداءً من الرئيس حتى أدنى وظيفة فيها. كنت شخصياً وكثيرون غيري من زملاء العمل نتواجد في مكاتبنا قبل السابعة، ونترك مكاتبنا بعد ساعات الدوام الرسمي ونحن سعداء ومقتنعون بأن ما نقوم به من عمل هو واجب ومتعة في الوقت ذاته، فالجميع كان يؤدي عمله بنفسه، وليس بغيره، وأنا أقصد حرفياً ما أقوله.

Ad

أتعلمون لماذا كُنا نتفانى في عملنا؟ الجواب سهل، ولا أسهل منه، لأن رئيسنا كان متفانياً في عمله، ملتزماً بمواعيد الدوام الرسمي، وعندما لاحظنا أنه يتواجد في مكان عمله قبل غيره اقتدينا به. كان رؤساؤنا مثلاً أعلى لنا، وبعدها عندما أصبحنا رؤساء أصبحنا نحن المثل الأعلى.

لم تكن هناك بصمة، ولا حتى توقيع حضور وانصراف. لم يكن هناك ما يستدعي ذلك، فالكل ملتزم بدوامه وعمله، والكل متفانٍ فيه، والكل يعلم أن مَنْ يتخاذل أو يتكاسل أو يتهرَّب من مسؤولياته فلن يفلت من الحساب والعقاب، وهو الخصم الفوري، وخسارة احترام الرئيس، وتلك الخسارة ستكلف المنفلت خسارة تقييمه السنوي، وهذا في حد ذاته إحراج له يصل إلى حد الشعور بالعار الشخصي.

الآن الوضع تغيَّر في معظم مؤسسات الدولة وشركاتها، بما فيها النفطية، والسبب معروف وواضح، فأي تهاون وتقاعس لأي رئيس يُسفر عن انفلات مرؤوسيه، والرئيس هو كل مَنْ يرأس مجموعة من المرؤوسين، ابتداءً من رئيس الوزراء وانتهاء برئيس الشعبة، إنها سلسلة وسلم وظيفي، ما إن تنفلت إحدى درجاته حتى تتساقط وتتهاوى التي تحتها، لهذا نرى ونلاحظ ونلمس الفشل الوظيفي الذي عشش في معظم قطاعات الدولة.

حل البصمة لن يكفي، ولن يُجدي، حتى لو قُسِّمت على كل ساعات العمل. الرئيس هو البصمة الحقيقية، لأنه ليس هناك من رئيس ملتزم يقبل ويرضى بأن يتسيَّب مرؤوسوه، والرئيس يملك أدوات قانونية يستطيع أن يطوِّعها لضبط مرؤوسيه من أجل مصلحة العمل، وهي أدوات سهلة ولا تحتاج إلى أي جهد أو وجع رأس، خصم فوري للراتب، ونقل إلى مواقع عمل أقل تميُّزاً، ووقف العلاوة السنوية، إلى جانب خسارة الترقيات الدورية الفاشلة التي هي أكبر الأخطاء الإدارية في الكويت، فلم يكن من العدل أن يتساوى المتسيِّب بالمجتهد الملتزم.

ضبط الالتزام بالعمل، وكالعادة، وكما نقول ونكرر، يبدأ من الأعلى، من الرئيس. نظام البصمة، رغم تكلفته العالية، أثبت فشله، فمهما تعدَّدت البصمات فسيجد المتسيّبون طُرقاً للإفلات منها، فليبدأ الالتزام بالرئيس، ومن كل الرؤساء بلا استثناء، ومَنْ لا يملك إرادة الالتزام فليترك منصبه للقادر عليه.