عند قيام «إسرائيل» في مايو 1948، تصوّر مؤسسوها «دولة» تحددها القيم الإنسانية وتحترم القانون الدولي. وأصر إعلان الاستقلال، الوثيقة التأسيسية لـ «إسرائيل»، على أنّ الدولة «ستضمن المساواة الكاملة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع سكانها بغض النظر عن الدين أو العرق أو الجنس» وأنها «ستكون وفية لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة».

ولكن، منذ البداية، لم تتحقق هذه الرؤية قط. فبعد ما يقرب من عقدين من الزمان منذ توقيع الإعلان، عاش الفلسطينيون في «إسرائيل» تحت الأحكام العرفية. ولم يتمكن المجتمع الإسرائيلي قط من حل التناقض بين الجاذبية العالمية لمُثُل الإعلان والإلحاح الضيق لتأسيس «إسرائيل» كدولة يهودية لحماية الشعب اليهودي.

Ad

وعلى مدى عقود، ظهر هذا التناقض الجوهري مراراً وتكراراً، ما أدّى إلى اضطرابات سياسية شكّلت وأعادت تشكيل المجتمع والسياسة الإسرائيلية من دون حل التناقض على الإطلاق. ولكن الآن، بعد الحرب في غزة والأزمة القضائية التي سبقتها، أصبح الاستمرار على هذا النحو أصعب من أي وقت مضى، ما دفع «إسرائيل» إلى نقطة الانهيار.

إنّ «إسرائيل» تسير على مسار متزايد من اللاليبرالية والعنف والتدمير، وفي طريقها إلى أن تصبح أكثر استبداداً في تعاملها ليس فقط مع الفلسطينيين بل وأيضاً مع مواطنيها، وقد تخسر بسرعة العديد من الأصدقاء الذين ما زالوا لديها، وستصبح منبوذة، ومع عزلتها عن العالم، قد تستهلكها الاضطرابات في الداخل مع اتساع الشقوق التي تهدد بتفكك البلاد نفسها.

لقد ضرب هجوم حماس في السابع من أكتوبر «إسرائيل» في وقت كانت تواجه بالفعل حالة من عدم الاستقرار الداخلي الهائل. وكان نتنياهو وحلفاؤه من اليمين المتطرف قد دفعوا في عام 2023، نحو مشروع قانون للإصلاح القضائي يهدف إلى الحد بشكل كبير من إشراف المحكمة العليا على الحكومة. وقد أثارت الإصلاحات القضائية المقترحة احتجاجات ضخمة، وكشفت عن مجتمع منقسم بعمق.

وأدّت التظاهرات إلى توقف المدن، وهدد جنود الاحتياط بعدم الخدمة إذا تم تمرير مشروع القانون، وألمح المستثمرون إلى أنّهم سيسحبون أموالهم من البلاد.

ومع ذلك، تم تمرير نسخة من مشروع القانون في الكنيست في يوليو 2023، ولكن تم إلغاؤها من المحكمة العليا في بداية هذا العام. في الوقت الحاضر، يحاول الائتلاف الحاكم إحياء بعض عناصر الإصلاح القضائي حتى مع استمرار الحرب في غزة.

لقد كشف احتجاج الإصلاح القضائي بالتأكيد عن مخاوف داخل «إسرائيل» بشأن طبيعة الديموقراطية في البلاد، لكنه لم يثر تساؤلات حول مسؤولية «إسرائيل» تجاه الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال. والواقع أنّ العديد من الإسرائيليين يرون أنّ معاملة بلادهم للفلسطينيين منفصلة عن عملها كديموقراطية. دائماً تسامح الإسرائيليون مع العنف الذي يمارسه المستوطنون اليهود ضد الفلسطينيين.

وقد كشفت الحرب في غزة، حيث قتلت القوات الإسرائيلية نحو 40 ألف شخص، وفقاً لتقديرات متحفظة، عن «دولة» تبدو عاجزة أو غير راغبة في دعم الرؤية الطموحة التي تضمّنها إعلان الاستقلال.

إنّ «إسرائيل» غير الليبرالية سوف تصبح دولة منبوذة أيضاً، وقد أصبحت بالفعل معزولة على نحو متزايد على المستوى الدولي. وتسعى العديد من المنظمات الدولية إلى اتخاذ تدابير قانونية ودبلوماسية عقابية ضدها. وحتى مع دعم الحلفاء الرئيسيين، فإنّ التأثير التراكمي للرأي العام السلبي، والتحديات القانونية، والتوبيخ الدبلوماسي من شأنه أن يعمل على تهميش «إسرائيل» بشكل متزايد على الساحة العالمية.

إنّ «إسرائيل» غير الليبرالية سوف تظل تتلقى الدعم الاقتصادي من عدد قليل من البلدان، بما في ذلك الولايات المتحدة، ولكنها سوف تكون معزولة سياسياً ودبلوماسياً عن معظم بقية المجتمع العالمي، بما في ذلك أغلب بلدان مجموعة الدول السبع. وسوف تتوقف هذه البلدان عن التنسيق معها في المسائل الأمنية.

ومن المرجح أن ينتهي الأمر بـ «إسرائيل» إلى الاعتماد كلياً على الولايات المتحدة، وتصبح عُرضة للتحولات في المشهد السياسي الأميركي في وقت يتساءل عدد متزايد من الأميركيين عن دعم بلادهم غير المشروط للدولة اليهودية.

إنّ العقد الاجتماعي بين «الدولة» والمجتمع في «إسرائيل» معلق حالياً في الميزان. وإذا ما تمكن نتنياهو وحلفاؤه من تحقيق أهدافهم، فإنّ الديموقراطية الإسرائيلية سوف تصبح جوفاء وإجرائية، مع تآكل الضوابط والتوازنات الليبرالية التقليدية بسرعة. وهذا من شأنه أن يضع البلاد على مسار غير مستدام من المرجح أن يؤدي إلى هروب رأس المال وهجرة الأدمغة، وتعميق التوترات الداخلية.

ومع تزايد استبداد إسرائيل، فإنّ هذا التحول غير الليبرالي لن يخفي الشقوق المتزايدة داخل المجتمع الإسرائيلي، وسوف تفقد الدولة بشكل متزايد احتكارها الاستخدام المشروع للقوة، وقد تشتعل الانقسامات إلى حد الحرب الأهلية.

وقد تنذر المواجهة العنيفة الأخيرة في مركز احتجاز «سدي تيمان»، حيث تم اقتياد الجنود المشتبه في اعتدائهم على أحد الفلسطينيين، بما ينتظرنا في المستقبل.

وتشمل العلامات الأخرى للتفتت الجاري بالفعل داخل جهاز الأمن الإسرائيلي نمو ميليشيات المستوطنين، المجموعات التي لم تكن الدولة راغبة في قمعها، على الرغم من هجماتها العنيفة على الفلسطينيين.

وقد ينهار حكم القانون في «إسرائيل»، وستعمل من دون سيادة القانون، بما يتفق مع الديموقراطية الجوفاء التي يفضلها اليمين المتطرف.

كما سيتحول الأمن إلى نظام مجزّأ بلا إشراف ولا قيادة موحّدة، مع تآكل احتكار الاستخدام المشروع للقوة. وسوف تزعم مجموعات مختلفة الحق في العنف، بما في ذلك ميليشيات المستوطنين المسلحين، والمدنيين الذين يتحالفون مع أقصى اليمين، وقوات الأمن القائمة.

إنّ هذا المستقبل ليس من اختصاص الخيال العلمي المتشائم. فقد أدّى الصراع في غزة إلى تكثيف الانقسامات السياسية داخل «إسرائيل»، وخاصة بين الجماعات اليمينية التي تدعو إلى تدابير عسكرية وأمنية متطرفة تتجاهل القانون الإنساني الدولي تماماً، وغيرها من الجماعات التي تدعو إلى نهج أكثر تصالحية تجاه الفلسطينيين.

ومن الممكن أن ينذر هذا الضعف في السلطة المركزية للدولة بتفكك أكثر إثارة للصدمة. ومن المؤكد أنّ وجود مجموعات أمنية متنافسة وإشراف برلماني متراخ من شأنه أن يضعف الردع الأمني الشامل لـ «إسرائيل» ويقوّض أي نظام متماسك للحكم في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. ومن الممكن أن تكون «إسرائيل» في مثل هذه الحالة على خلاف مع نفسها.

إنّ «إسرائيل» قد تتحوّل إلى كيان مقسّم إلى أجزاء، حيث تعمل العناصر اليمينية الدينية والقومية على بناء دولتها الخاصة بحكم الأمر الواقع، على الأرجح في مستوطنات الضفة الغربية.

أو قد تشهد «إسرائيل» تمرداً للمتطرفين الدينيين والقوميين المتطرفين، الأمر الذي من شأنه أن يقسّم «إسرائيل» في حرب أهلية عنيفة بين اليمين الديني المسلح وأجهزة «الدولة» القائمة.

وفي غياب الحرب الأهلية، فإنّ هذا الوضع سوف يظل غير مستقر، وسوف ينهار الاقتصاد، الأمر الذي سيجعل «إسرائيل دولة» فاشلة.

* إيلان بارون وإيلاي سالتزمان