نصحني الأستاذ أحمد فواز- صاحب مؤسسة الرحاب الحديثة للطباعة والنشر- باقتناء كتاب الدكتور خالد يوسف المعنون «معجم أسماء الأصوات والأوقات»، وقد كانت نصيحة الصديق الناشر «بجَمَل» حيث لفتتني فكرة الكتاب وجذبني مضمونه الذي يذكرنا بفسيح كون اللغة العربية وبيمّها الشاسع المترامي الأطراف، والذي - حسب قول المؤلف- «ما من ضليع سبر أغواره وقضى، إلا وادّعى أنه صاد من أصداف لآلئه القليل القليل، وبقيت وفرة وفيرة من الكلمات لكلّ منها في صدفتها نكهة خاصة، يتذوقها من فقه الحديث، أو خَبَلته الكتابة، أو كان من صاغة اللفظ، وأتقن صناعة الكلم».

أسماء المسميات في مدلولاتها ليست نسخة طبق الأصل، ولو كانت كذلك برأي الكاتب «لاقتضت البلاغة أن تكتفي بالإيقاع أو المقام أو مقتضى السياق والحال، دون النظر إلى الدلالة ما دامت هي نفسها»، فلفظة «الموزونة» مثلاً لا تعني فقط المرأة القصيرة، إنما المرأة القصيرة العاقلة الراجحة الرأي، فإن انتفت رجاحة العقل عنها لم تعد «موزونة»، وإن بقيت امرأة قصيرة! وكذلك «البغام» و«الزئير» و«الهمس» و«الهدير» وما بينها أصوات لكل منها صاحب ودلالات وإيقاع وانفعالات... أما «البكرة» و«البلوج» و«الشروق» و«الفتق» و«الفجر» و«الفرقان» فكلها مسميات لمواقيت صباحية يلي بعضها الآخر بفترات قد تكون وجيزة.

Ad

الجميل في هذا الكتاب، وإن يكن مرماه في الأصل أسماء الأصوات وأسماء الأوقات، أن المؤلف ذيّله بمختارات من قراءاته تحت عنوان «فوائد وطرائف» عرض فيها لكثير من الألفاظ والأقوال والأمثال التي قد تُشبع بعض النَّهَم عند الكتّاب والمتكلمين وتثري لغتهم قولاً وكتابة.

وعلى حد قول الناشر فإن هذا المؤَلَّف «لم يتخطّ التراث، إنما منه استمدّ مادته» وقد بذل صاحبه وفير الجهد في دقة اختيار الأسماء والكلمات وغربلتها بإتقان، تمهيداً لشرحها وتفسيرها والتمييز بين المتشابه منها وازالة اللبس عن أي غموض قد يعتريها... ولعلّ هذا «المعجم» الصغير يكون «حجراً صلداً في أسس بناء عربيّ عصري شامخ» يسهم في إثراء مكتبتنا العربية من خلال نقل جمالية التراث ودقة الصنعة فيه الى ركب الحضارة التي تنحو بنا أكثر فأكثر نحو التخصصية.

كلنا مقصّرون بجانب اللغة العربية السامية المكانة والرفيعة المقام، ولعلّ التقصير الأكثر إيلاماً والأشد قسوة هو تقصيرنا بحق أنفسنا بالتنكر لها تدريجياً وبالاستسلام– طوعاً وعن سابق إهمال وتبلّد- لمقولة صعوبتها، إذ يستوجب البرّ بلغتنا «الأم» ألا نتكاسل عن طرق بابها وألّا تلهينا مشاغلنا عن التبارك بزيارتها والاستزادة من حكمتها والتعمّق في دقة استعمال مفرداتها وإتقان انتخابها، وبراعة سبك تراكيبها وحوك الكلام، وهذا ما أراد أن ينبهنا اليه صاحب «معجم أسماء الأصوات والأوقات».

***

حفّزتني مقاربة «الأصوات والأوقات» في اللغة العربية الى مزيد من التبحّر في أعماق مفرداتها ومقاصدها، وقد وجدت ما توقعته وما أعرفه جزئياً عن اتساع آفاق المصطلحات واختلاف الدلالات والدقة في الاستخدامات.

فمن غنى اللغة العربية- الذي يرتبط عادة بصعوبتها- استخدام عدة مفردات لما يعّبر عنه بلغات أخرى بكلمة واحدة، فصوت الإنسان مثلاً له في لغتنا عدة مسمّيات ترتبط بظروف التعبير من خلاله أو بطريقة خروجه من الفم، فهناك فارق بين النطق، والكلام، والقول، والتمتمة، والهمس، والصراخ، والترتيل... وفي حين أن صوت النداء قد يكون هتافاً أو صياحاً، وصوت التشجيع يكون أهازيج، يكون صوت المريض أنيناً، وصوت الثكلى عويلاً أو ندباً، وصوت البكاء يكون نواحاً أو خنيناً... ولا ننسى الفروقات البسيطة والدقيقة بين الإنشاد، والغناء، والترنيم، والترتيل، والتغريد والشدو، والطرب، والحداء.

وفي السياق، يرتبط بدراسة اللغة العربية علم متكامل يقال له «علم الأصوات» الذي يُعنى بدراسة الأصوات البشرية من أجل توصيفها وتحليلها وتصنيفها والتمكين من كتابتها بشكل سليم، فالأصوات المفردة تشكل العناصر الأولى لتكوين الكلمات التي تتآلف فيما بينها لتصبح تراكيب منضبطة بقواعد علم النحو والصرف فتشكّل جملاً مفهومة وصحيحة، وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار أبي الأسود الدؤلي من أوائل علماء الأصوات في اللغة العربية، وبخاصة أنه لا يكاد يخلو كتاب من تراث الصرف والنحو من مبحث يتناول فيه المؤلف «المباحث الصوتية» الأمر الذي اشتق منه فيما بعد أصول علم «تجويد» القرآن الكريم.

أما في مجال الحديث عن «الأوقات» فيكفي أن نتمعن بدقة الألفاظ المستخدمة في القرآن الكريم، لنعي مدى ثراء لغتنا العربية ولنتأكد من درجة افتقارنا الى التزود من كنوزها، فاقتران لفظ «العشي» بـ «الإبكار» مثلاً في أكثر من آية كريمة انما يسير في سياق ما عرفه العرب من استخدام أسلوب «الطباق» الذي يجمع في جملة واحدة بين الشيء وضدّه، وهذا من شأنه أن يضفي ألقاً على المعاني وجمالاً على أسلوب الكتابة، ويسلب اهتمام القارئ ويدعوه الى التفكّر والتدبر في المقصود من اختيار الألفاظ.

أما «الصبح» فقد قرنه الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم بالـ «التنفس» تارة وبـ «الإسفار» تارة أخرى، الأمر الذي يختلف دلالة عن الفجر والغداة والسحر والبكور، ويختلف توقيتاً عن الضحى والعصر والمساء والآصال ودلوك الشمس وغسق الليل وآنائه ومن ثم «البيات» فيه.

من جانب آخر، لا يمكن أن يمرّ الحديث عن الأوقات مكتملاً دون التمعّن في لفظ «الساعة» التي استخدمها القرآن الكريم بعدة معان، منها ما يدل على وقت الأجل كما في الآية (34) من سورة «الأعراف»، ومنها ما يعني حين البعث من القبور كما في الآية (31) من سورة الأنعام أو «القيامة» كما في الآية (107) من سورة «يوسف»، وهي تعني أيضاً وقتاً محدداً كما في الآية (117) من سورة «التوبة» والآية (45) من سورة يونس.

أما «الدهر» فقد استخدم في القرآن الكريم بدلالات زمانية تفيد مرور الأيام والليالي، وهذا ما ذهب إليه المفسّرون الذين تدبروا الآية (24) من سورة «الجاثية» والآية (1) من سورة «الإنسان»، الأمر الذي يتمايز بعض الشيء عن كلمة «الوقت» الواردة في الآية (187) من سورة الأعراف، والآية (38) من سورة «الحجر» والآية (81) من سورة «ص» والتي تعني في جميع مواضعها ميقاتاً محدداً من الزمن، وذلك دون أن ننسى لفظ «اليوم» الذي يعني الوقت من طلوع الفجر الى غروب الشمس عند المخلوقات وهو عند ربّنا كألف سنة مما يعدّ البشر.

* كاتب ومستشار قانوني