صدرت هذا الشهر عن دار «الآن ناشرون» في عمان بالأردن «موسوعة الشعر الخيميائي»، أو الكيميائي، من تحقيق د. الهواري غزالي، وهو أستاذ محاضر في قسم الدراسات العربية بجامعة باريس، وتسعى هذه الموسوعة إلى نفض الغبار عن أهم جزء من التراث العربي الذي طاله النسيان وهو الكيمياء، وهو جزء ستكتمل به حتماً المكتبة العربية، نظراً للنقص الذي تبديه إزاء هذا العلم المهمل.
ومن خلال هذه الموسوعة، التي تضم نصوص شعراء نظموا في علم الكيمياء، يثير هذا الباحث الأكاديمي قضية جديدة في الدراسات العلمية والإنسانية للأدب العربي، وهي قضية ستساهم حتماً في إعطاء دفع حقيقي للبحوث العلمية والأكاديمية، وفي التقدم بعجلة الدراسات الإنسانية للأدب العربي.
ويشير الباحث إلى أن الكيمياء عند العرب أفرزت أجناساً أدبية مختلفة، ففي مجال الشعر سنجد المنظومات والأراجيز والمقاطيع والقصائد والتخميسات، وهي كلها أجناس تم التفصيل فيها من خلال تقديم دراسات بنيوية متماثلة في أغراض أخرى عدا الكيمياء. إلا أن ما لاحظه الباحث في ظل عمله على تأسيس غرض الصَّنعويات الشعري، وجود نوع سردي أدبي لم يتم التطرق إليه.
وإذا كانت كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة هي نصوص صنعت في الواقع على شاكلة العمليات الكيميائية، فإن الباحث يضيف بقوله إن هذا النوع تطور بشكل أدق من خلال كتاب الأقاليم السبعة ذات الصور (التنسابية)، وهو مخطوط مصنف تحت الرقم 540 / أ.ع لمؤلفه أبي القاسم، محمد بن أحمد العراقي السيماوي، وهو كاتب لا يعرف بالضبط تاريخ ولادته التي كانت بالعراق، لكن المؤرخين أجمعوا على وفاته سنة 580 هـ. ولقد اهتم العراقي السيماوي بالتأليف في صنعة الكيمياء وكان مدافعاً عن آراء جابر بن حيان، وله مؤلفات من بينها: كتاب الكنز الدفين، كتاب العلم المكتشف في زراعة الذهب، كتاب عيون الحقائق وكشف الطرائق، وكتاب النجاة والاتصال بعين الحياة.
حيوانات أسطورية
في هذه المخطوطة، ستتحول المعادن رمزياً إلى حيوانات، وقد تكون حيوانات أسطورية أيضا. فالتنين مثلاً؛ هذا الثعبان ذو الجناحين على سبيل المثال، سيتحول إلى سمكة أمام الصياد الذي يتفاجأ من هول المشهد، ويخبره أنه من الجن، كما أنه سيقوم بلدغ الملك، ليرديه قتيلاً. وفي الواقع، فإن المؤلف هنا يتحدث عن العمليات الكيميائية في بناء سردي شبيه بأسلوب ألف ليلة وليلة. وكمثال، يقتطف الباحث جزءاً من قول السيماوي:
«فحين تكبر وتخلخل سلطانه وانحل، وكان سبب ذلك حية بجناحين وفعلت في ذلك الإقليم ذات قامين، فلسعت الملك فتهرى، وزال ملكه فتعرى، وانقلب من على سريره ومال، وانحل جسمه من سمها وسال، فلما رأيت فعل الحية بالملك وليت الأدبار، فنادتني الحية بلسان فصيح: يا أيها الصياد لا تخف مني فأنا سمكة بحرية عند امرئ، وأنا البلطية، فقلت لها: لست أنا بمن يعنى بالبهتان، كيف تكوني بلطية وأنت في شكل ثعبان، فقالت: ألم تعلم أننا بنات الجان، ألم تعلم أن أختي كانت بلطية، فصارت جارية أنسية، فقلت لها: هل بقي لكم إخوة آخرون غيركم، أم أنتم الإنسان وحدكم، قالت هذا الأمر لا يمكن كشفه، وسيأتي في التصوير وصفه، ويدريه من يفهم العدد، من الأيام والمدد، فبينما أنا أتحدث إذ دخلت في جسم الملسوع فأقعاها في جوفه، وصار كلاهما سما ذائبا، وبقيت صورتها لشيء غائب، فلما صار التشابه، وأنا متعجب لما قد أصابه، إذ سمعت هاتفا ينادي...».
الدراسات الأجناسية
إن لفت الباحثين إلى هذا الجانب السردي الأدبي سيعطي للأدب العربي نفساً أقوى وبعداً أعمق، لاسيما إذا كان ذلك مرفقاً بالدراسات الأجناسية للتراث العربي، لاسيما أنه توجد كما يعتقد الباحث نصوص عربية تراثية أخرى لم تحقق بعد، وهي قيد الانتظار.
وتعمل هذه الموسوعة التي أنجزها د. الهواري غزالي على تأسيس غرض شعري جديد، يضاف إلى قائمة الأغراض الشعرية التي عرفها العرب، كالغزليات، والطرديات، والمرثيات وغيرها. وهو غرض اصطلح عليه د. الهواري غزالي بالصنعويات نسبة إلى مصطلح الصنعة الذي يعود إليه الكيميائيون للإشارة إلى مهنة الكيميائي الذي يسعى إلى صناعة الذهب.
قراضة العسجد
وتضم الموسوعة في جزئها الأول ديوان شذور الذهب لابن أرفع رأس الجياني الأندلسي (المتوفى سنة 593 هـ - 1197 م)، وفي جزئها الثاني ديوان قراضة العسجد لمحيي الدين بن عربي (المتوفى سنة 638 هـ / 1240 م) وديوان سلاسل النضار لصلاح الدين الكوراني (المتوفى سنة 1049هـ - 1639م) في جزئها الثالث.
أما بخصوص ابن أرفع رأس الجياني المسمى بالرئيس فهو يعد من أهم الشعراء الكيميائيين. وهو الشاعر الذي قيل فيه: «ولو لم يكن للأندلسيين غير كتاب شذور الذهب لكفاهم دليلاً على البلاغة (...) فلم ينْظم أحد في الكيمياء مثل نظمه بلاغة معاني، وفصاحة ألفاظ، وعذوبة تراكيب، حتى قيل فيه: إن لم يعلمْك صنعة الذهب علمك صنعة الأدب».
الفتوحات المكية
ولقد قام، د. الهواري غزالي، إضافة إلى تحقيق قراضة العسجد في الجزء الثاني، بضم قصيدة الشيخ الأكبر المسماة كشف الأستار لخواص الأسرار، ورسالة أخرى بعنوان شرح قصيدة كشف الأستار لخواص الأسرار لعبدالرحمن السويدي، ورسالة كتاب ما أتى به الوارد. وتعد هذه الرسالة من بين أهم الفصول والرسائل التي ألفها - لغرض تبيان طريقة السلوك - بناء على معرفته العميقة بالكيمياء القديمة، وذلك إلى جانب كتابه المشهور الفتوحات المكية.
ولقد تناول بالبحث فيها موضوعين أساسيين: أولهما التحقق من نسبة ديوان قراضة العسجد لمحيي الدين بن عربي، نظراً لافتقاده المعلومات التي من شأنها إثبات نسبة الديوان إلى صاحبه، وثانيهما؛ البحث في معرض ذلك في موضوع الكيمياء الروحية التي أثارها ابن عربي في كتابه الفتوحات المكية في فصل بعنوان: كيمياء السعادة وفي رسالته: كتاب ما أتى به الوارد. والهدف من هذا البحث هو إيجاد نقاط تقاطع بين ديوان قراضة العسجد ومؤلفات ابن عربي النثرية خصوصاً.
سلاسل النضار المنظوم
أما بخصوص الجزء الثالث، الذي يحمل عنوان سلاسل النضار المنظوم بداية القرن الحادي عشر بما يوافق بداية القرن السابع عشر ميلادي بحلب. فيعد صاحبه من أكثر شعراء حلب نظماً وأوسعهم نظراً في العلوم. وهو قاض من الكتاب المترسلين الذين عاشوا بالفترة العثمانية. ويعد هذا الديوان في مرحلته المتأخرة زمنياً مقارنة بالدواوين الأولى دعماً لفرضية وجود غرض الصنعويات الذي جعل منه د. الهواري غزالي تساؤلاً مستمراً في أبحاثه، وعمل من خلاله على إيجاد مكانة له بين مختلف الأغراض الشعرية الأخرى.