كيف امتلكت النرويج أكبر صندوق ثروة في العالم؟ وأين تستثمر أمواله؟
إن كانت الحكمة الاستثمارية يجسدها الملياردير وارن بافيت على مستوى الأفراد، بفضل قصة نجاحه الطويلة في سوق الأسهم، والتي قامت على اختيارات مميزة وصبر لا ينقطع، فإن نظيره على المستوى المؤسسي قد يكون صندوق الثروة السيادي النرويجي، والذي يعد الأكبر في العالم.
الصندوق الذي يعرف باسم «صندوق التقاعد الحكومي العالمي» وقديما اشتهر بـ «صندوق النفط النرويجي»، كشف عن أرباح مذهلة بلغت 138 مليار دولار في النصف الأول من عام 2024، وتجاوزت قيمة أصوله 1.66 تريليون دولار.
هذا الحجم الهائل من الأصول إذا جرت تصفيته إلى كاش، فسيكفي لوضع النرويج في المرتبة الثانية بقائمة أكثر الدول امتلاكا لاحتياطيات النقد الأجنبي، متفوقة على اليابان التي تمتلك نحو 1.41 تريليون دولار، وبعد الصين التي تمتلك أكثر من 3.4 تريليونات دولار.
وبالحديث عن الاحتياطيات النقدية، تبلغ الاحتياطيات الأجنبية لبنك النرويج -الذي يشرف على الصندوق- نحو 75 مليار دولار فقط (الكثير منها مستثمر في أصول وليس بينها الذهب)، ما يعني أن أصول الصندوق تعادل 22 مرة حجم الاحتياطي.
هذه الاحتياطيات تكفي لتلبية حاجة البلاد من الواردات لنحو 9 أشهر ونصف الشهر، لكن أصول صندوق التقاعد تكفي النرويج لبناء مستقبل مزدهر والحفاظ على ثراء مواطنيها لأجيال عديدة قادمة... فكيف حقق الصندوق ذلك؟
لماذا تأسس الصندوق؟
في حين يرجع تاريخ تأسيس الصندوق إلى تسعينيات القرن الماضي، فإن فكرته بدأت بالفعل عقب مطالبة حكومة أوسلو بالسيادة على الجرف القاري النرويجي عام 1960، ما منحها سيطرة أكبر على الموارد النفطية في المنطقة الغنية بالوقود الأحفوري.
ومع السماح للشركات بالعمل في المنطقة، ومع تطور عمليات التنقيب والإنتاج في فترة السبعينيات والثمانينيات والتي جعلت من النرويج لاحقا منتجا رئيسيا للنفط، بدأت مناقشات في البرلمان حول كيفية استغلال الثروة الناتجة عن تجارة الوقود الأحفوري التي غيرت شكل الاقتصاد.
فعلى سبيل المثال، تطورت مساهمة النفط في الصادرات النرويجية منذ بدء الإنتاج عام 1971، ليشكل 44 في المئة منها بحلول عام 2024، ونحو 64 في المئة منها خلال الذروة، كما شكل 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي و31 في المئة من عائدات الحكومة.
وفي عام 1983، كان هناك مقترح من رئيس البنك المركزي لإنشاء صندوق يهدف لادخار فوائض عائدات النفط، وفي عام 1990 مرر البرلمان بالفعل قانونًا يسمح بتأسيس الصندوق.
وكان هدف الصندوق في البداية مساعدة الحكومة في فترات انخفاض أسعار النفط أو انكماش الاقتصاد، كما عمل كأداة لإدارة التحديات المالية المتمثلة في شيخوخة السكان، وللاستثمار في الأمد البعيد، ولكن بطريقة تجعل من الممكن السحب عند الحاجة.
ومع استبعاد روسيا، تعد النرويج أكبر منتجي النفط بأوروبا (نحو مليوني برميل يومياً)، وهي رابع أكبر مصدر للغاز الطبيعي في العالم، وتاسع أغنى دولة بالعالم من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي (88 ألف دولار).
كيف جمع الصندوق ثروته؟
يقول الصندوق في تعريفه لنفسه وتاريخه عبر موقعه الرسمي: «كانت عائدات النفط مهمة جدا بالنسبة للنرويج، ولكن في يوم من الأيام سينفد النفط، ويهدف الصندوق إلى ضمان استخدام هذه العائدات بشكل مسؤول، والتفكير على المدى الطويل، لحماية مستقبل الاقتصاد».
وتلقى الصندوق أول دفعة لرأس المال من الحكومة في مايو 1996، وبحلول عام 1998 قُدرت أصوله بنحو 172 مليار كرونة (23 مليار دولار آنذاك)، وتطورت استثماراته بشكل مذهل لتصل في نحو ربع قرن إلى ما هي عليه الآن.
وبحلول نهاية النصف الأول من عام 2024، تلقى الصندوق تدفقات صافية من الحكومة تجاوزت 5 تريليونات كرونة، في حين بلغ العائد التراكمي للصندوق 10 تريليونات كرونة (مع الأخذ في الاعتبار تقلبات سعر الصرف تاريخيا).
وحقق الصندوق عائدا سنويا يبلغ 6.30 في المئة بين يناير 1998 ونهاية النصف الأول من عام 2024، ويستثمر بشكل أساسي في الأسهم، وأدوات الدخل الثابت، والعقارات والبنية التحتية، ويمتلك حصصا في نحو 9 آلاف شركة، وله استثمارات في 71 دولة حول العالم.
كيف يستثمر الصندوق؟
وتقرر وزارة المالية الاستراتيجية الاستثمارية الشاملة للصندوق، وتتطلب التغييرات الجوهرية موافقة البرلمان أولا، ويتولى البنك المركزي الإشراف على إدارة الصندوق وقياس نتائجه وتحديد المتطلبات والتوصيات الاستثمارية.
وإلى جانب الأسهم العالمية والسندات والعقارات والبنية التحتية للطاقة، تنتشر استثماراته في معظم الأسواق والبلدان والعملات لتحقيق تعرض واسع للنمو العالمي وخلق القيمة، ويتبنى نهجا استثماريا طويل الأجل، ويضع لنفسه مؤشرات معيارية لقياس الأداء العام وأداء كل محفظة على حدة.
ويعتبر الصندوق مستثمرا كبيرا في أسواق الأسهم العالمية، وتستند استراتيجيته الاستثمارية إلى التعرض الفعّال للسوق والبحث الأساسي، ولا يعتبرها سلبية أو نشطة، حيث يدير الجزء الأكبر من محفظته الاستثمارية داخليا ولا يتبنى أي استثمارات سلبية بنسبة 100 في المئة.
وبالنسبة لإدارة الدخل الثابت، يخصص الصندوق 70 في المئة من استثمارات هذا البند للسندات الصادرة عن الحكومات والمؤسسات ذات الصلة، و30 في المئة للأوراق المالية الصادرة عن القطاع الخاص.
ويوزع استثماراته في السندات الحكومية بين البلدان وفقا لحجم اقتصادها، وتقع معظم هذه الاستثمارات في الأسواق المتقدمة، مع نسبة عالية مقومة باليورو والدولار والجنيه الإسترليني والين.
ويستثمر الصندوق أيضا في العقارات والبنية الأساسية لتحسين تنوع محفظته، ويشمل هذا أدوات الاستثمار العقاري المدرجة بالبورصات وغير المدرجة، وكذلك البنية الأساسية للطاقة المتجددة غير المدرجة.
وتسمح قواعد الاستثمار الخاصة بالصندوق باستثمار ما يصل إلى 7 في المئة من أصوله في العقارات غير المدرجة وما يصل إلى 2 في المئة في البنية الأساسية للطاقة المتجددة غير المدرجة.
وثروة مذهلة يديرها صندوق التقاعد، تجعله يتصدر قائمة أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم، وتعني الكثير والكثير لدولة لا يتجاوز عدد سكانها 5.6 ملايين نسمة ويبلغ حجم اقتصادها بالكاد نحو 526 مليار دولار.
وبقول آخر، فإن أصول صندوق الثروة النرويجي تعادل أكثر من 3 مرات حجم اقتصاد البلاد، ويبلغ نصيب الفرد منها نحو 298 ألف دولار، ما يمنح البلاد قوة اقتصادية ونفوذا دوليا، إذ لا يتمتع كثير من الدول بهذا القدر من المال القادر على التنقل بسهولة.
ولكن فوق كل شيء، يمنح الصندوق البلاد هدفا أسمى والذي خططت له منذ عقود بعيدة، وهو درع ضد الأوقات الصعبة وفائض للأجيال القادمة، واللذان تحققا بعقلية تستند إلى النظرة بعيدة الأمد والصبر على التقلبات.