بين تفكيك «غوغل» في أميركا وتمييع «حماية المنافسة» بالكويت
مجلس الوزراء أمام مسؤولية إعادة تحديد نسبة السيطرة الاحتكارية في سوق معينة
• القانون 72 لسنة 2020 لحماية المنافسة استبدل النص الحاسم بـ «تعريف مائع»!
• الاحتكار بوابة لانحرافات اقتصادية كالتضخم وتراجع الجودة وإضاعة فرص استثمارية ووظيفية
شغل الحكم القضائي الذي أصدرته محكمة فدرالية أميركية باعتبار عملاق البحث على الإنترنت «غوغل» شركة محتكرة، أسواق المال العالمية وشركات التكنولوجيا المماثلة، وسط توجه وزارة العدل الأميركية لإرغام «غوغل» على تفكيك نفسها لعدة شركات، لتعزيز المنافسة في سوق البحث على الإنترنت، بعد أن تبيّن سيطرتها على ما يتجاوز 85 بالمئة من حجم السوق والإضرار ببقية المنافسين.
وخطوة «تفكيك» غوغل المحتملة هي إجراء نادر الحدوث، خصوصاً على صعيد الشركات العملاقة في سياق سياسات مكافحة الاحتكار بالولايات المتحدة، حيث ستكون هذه الخطوة الأولى من نوعها منذ تفكيك عملاق الاتصالات الأميركي «إيه تي آند تي» (AT&T) في ثمانينيات القرن الماضي، إذ فُكّكت الشركة لـ 7 كيانات أخرى، بعدما تبيّن سيطرتها على أكثر من نصف سوق الاتصالات بالولايات المتحدة، كما يعيد الى الأذهان مساعي الحكومة الأميركية مع مطلع الألفية لتفكيك شركة مايكروسوفت، بعد قرار قاضٍ اتحادي بأن «مايكروسوفت» التكنولوجية العملاقة استخدمت، بشكل غير قانوني، القوة السوقية لنظام التشغيل ويندوز الخاص بها، للتغلب على المتصفحات المنافسة، وأجبرت لاحقاً من خلال تسوية على التوقف عن إلحاق الضرر بالمنافسين، وربما تلجأ «غوغل» الى خيارات مشابهة للتسوية، كأن تتوقف عن دفع مبالغ مالية للشركات لجعل محركها هو المفضل على صفحات الإنترنت، أو إصلاح سياسات الإعلانات التي تجعل «غوغل» متحكمة في توجيه المستخدمين إلى المواقع الإلكترونية، فضلاً عن عمل الشركة على استئناف الحكم القضائي الذي اعتبر حسب حكم القاضي أميت ميهتا، الذي وقّع في نحو 300 صفحة «أن غوغل شركة احتكارية، وقد تصرفت كشركة احتكارية للحفاظ على احتكارها».
دعاوى مماثلة
ولا يتوقف الأمر عندما يتعلق بحماية المنافسة ومكافحة الاحتكار عند «غوغل»، إذ رفعت وزارة العدل والعديد من الولايات دعاوى قضائية أخرى لمكافحة الاحتكار منها ضد شركة أبل، بسبب حرمان المنافسين من تطبيقات آيفون، وضد «أمازون» لاستخدام سيطرتها على عمليات البيع بالتجزئة للضغط على الوسطاء للتعامل مع منصتها، وضد «ميتا» بسبب محاولات الهيمنة على وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال منصاتها كـ «إنستغرام» و«واتساب»... وهذه الشركات العملاقة تقوم أيضاً بشراء الشركات الأصغر حجماً منها في نفس نشاطها، لضمان احتكارها أو سيطرتها على السوق.
تخريب متعمد
وفي الحقيقة، فإن استعراض مسألة «غوغل» واحتمال تفكيكها واستحضار تجربة (AT&T) المكتملة وتسوية «مايكرسوفت» الوقائية، والحديث عن الدعاوى ضد «أبل» و«أمازون» و«ميتا» لا يستهدف المقارنة أو حتى المقاربة بين واقع مكافحة الاحتكار في الولايات المتحدة وغيرها، كالاتحاد الأوروبي وبريطانيا التي تتعامل باحترافية مع التفاصيل المعقدة، في سبيل حماية السوق وتحقيق مصلحة المستهلك أو العميل، حتى لو تعلّق الأمر بمنتجات خاصة بشركات معيّنة مثل «غوغل» ومحركات بحثها، و«مايكروسوفت» وأنظمة تشغيلها، و«أبل» وتطبيقاتها، مقابل الكويت التي تنتشر فيها المظاهر الاحتكارية العامة والسهلة الرصد من المشاريع الكبرى والمناقصات العامة الى صيد السمك، مروراً بالسواد الأعظم من الأنشطة التجارية والاستهلاكية، إنما بالتخريب - المتعمد على الأرجح - الذي طال القانون 10 لسنة 2007 في شأن حماية المنافسة، والذي كان يمثّل جانباً معقولاً من الحد الأدنى في تطبيق مواكبة الاتجاهات العالمية، من خلال إصدار قانون جديد في نوفمبر 2020، شل العمود الفقري للقانون السابق!
تفكيك شركة بحجم «غوغل» خطوة نادرة هي الأولى منذ تجزئة عملاق الاتصالات (AT&T) في ثمانينيات القرن الماضي
فالقانون البديل لحماية المنافسة، رقم 72 لسنة 2020، ميّع النص الحاسم في القانون السابق الذي يجرم عمليات تجريم الاحتكار، حيث استبدل تعريف السيطرة بأنها «وضع يتمكن من خلاله شخص أو مجموعة أشخاص تعمل معاً، بشكل مباشر أو غير مباشر، من التحكم في سوق المنتجات، بالاستحواذ على نسبة تجاوز 35 بالمئة من حجم السوق المعنية»... إلى النص الجديد الذي عرّف السيطرة بأنها «العلاقة القانونية أو التعاقدية التي تؤدي بشكل منفصل أو مجتمع الى التأثير الحاسم».
الحكم ضد «غوغل» ينبه لوضع احتكاري تمارسه شركات عملاقة أخرى مثل «أبل» و«أمازون» و«ميتا»
وما بين التعريف السابق الواضح والنص المعدل «المائع» الكثير مما يمكن فهمه من غياب ثقافة حماية المنافسة في الكويت بشكل يسهل الاحتكار العلني والواضح، لا سيما في مجال السلع الاستهلاكية والغذائية واحتياجات الأسر في الكويت، كما أنه يبعدنا أكثر عن مسألة فحص الممارسات الاحتكارية الخفية التي تضر بالمستهلكين، كاستغلال أملاك الدولة عبر الإيجار بالباطن أو حصول موزعين ووكلاء على امتيازات من الدولة بما يمنع دخول المنافسين، فإلغاء النسبة المحددة المعروفة التي تبيّن حجم السيطرة على السوق واستبدالها بـ «علاقة تؤدي إلى التأثير الحاسم» هو دون شك أمر يعاكس مصلحة المستهلكين.
بوابة الانحرافات
إن الاحتكار هو بوابة لانحرافات اقتصادية متعددة لا ترغب بها أي دولة أو مجتمع، فهو محفز للتضخم والغلاء وبيئة متاحة لتراجع جودة أي خدمة، أو ينطوي على إضاعة فرص استثمارية وأخرى للعمالة الوطنية والمشروعات الصغيرة والمتوسطة، الأمر الذي يوجب على مجلس الوزراء، وهو يمتلك اليوم الصلاحيات التشريعية والتنفيذية، أن يتولى مسؤولياته في أول خطوة لإصلاح انحراف «حماية المنافسة» بإعادة نسبة الـ 35 بالمئة كمحدد للسيطرة، أو حتى تعديلها إذا كان ثمة مبرر واضح بدلاً من النص «المائع» الحالي، وهو خطوة قانونية لا تعفي من أهمية اتخاذ خطوات تنفيذية لرفع مهنية جهاز حماية المنافسة، ليضطلع بدوره المفترض في حماية السوق والمستهلكين ومكافحة الاحتكار.