تجدّد الجدل القديم حول صوابية أن تعطي الولايات المتحدة الأولوية للصين ومنطقة المحيطَين الهندي والهادئ، حيث يتمحور هذا الجدل حول مكانة الولايات المتحدة في هذه المنطقة، وهو يشمل القوات والقواعد العسكرية، والاتفاقيات التي تُشرّع الوجود العسكري الأميركي في الخارج وتشكّل ركيزة أساسية لاستراتيجيات الردع التي تطبّقها وزارة الدفاع الأميركية.
انطلقت موجة من الانتقادات اللاذعة بعد قرار سلاح الجو الأميركي، في أكتوبر 2022، بالتخلي عن وحدتَين من الطائرات المقاتلة القديمة (F-15C/D) في قاعدة «كادينا» الجوية، على جزيرة أوكيناوا اليابانية، واستبدالهما بكتيبة مؤقتة لتنفيذ المهمة القتالية هناك، تلاحقت الانتقادات فور إعلان القرار من جانب أعضاء في الكونغرس وخبراء في الدفاع وفي شؤون المنطقة، فقد دعا عدد كبير منهم إلى توسيع الوجود الأميركي في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ لردع العدوان الصيني. يتكلم هذا المعسكر عن غياب التنسيق بين الموارد والأولويات الاستراتيجية، لكن إذا كانت وزارة الدفاع الأميركية تعطي الأولوية لتوسّع القوة العسكرية الصينية، فما الذي يفسّر إقدام البنتاغون على إزالة معدات جوية أساسية قد تسهم في كبح مسار بكين، بدل أن يكثّف جهوده لتحسين موقعه في المنطقة؟
لن يكون الجواب عن هذا السؤال بسيطاً بقدر الانتقادات المتزايدة في هذه الفترة، لكنه يتمحور حول مفهوم أساسي تغفل عنه معظم النقاشات المرتبطة بالردع: قوة التحمّل، ولتحسين قدرة القوات العسكرية على القتال وإشراكها في جهود الردع، يجب أن تتمكن من إطلاق هجوم وتضمن صمودها، ثم تستأنف العمليات وتنتج قوة قتالية حقيقية، ولهذا السبب، تُشدد الخطة القتالية في استراتيجية الدفاع الوطني لعام 2022 على إنشاء قوة مستقبلية قابلة للصمود، وقد طوّرت جميع الأجهزة العسكرية تقريباً مفاهيم جديدة للعمليات بناءً على مواقف متفرّقة.
يجب أن تتبنى وزارة الدفاع الأميركية رؤية مشتركة تجمع بين تحسين المواقع وتفعيل الردع، ويُركّز الجدل المرتبط بقاعدة «كادينا» راهناً على طائرات موجودة في جهاز واحد وداخل قاعدة عسكرية محددة، لكن في مساحة شاسعة بقدر منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، لن تكون معدات الطيران التكتيتي المأهول وقصير المدى كافية لتحقيق الأهداف الأميركية. تستطيع مجموعات صغيرة من قاذفات الصواريخ أن تندمج مع مركبات أخرى وتتجول بشكلٍ متكرر، فتزيد صعوبة رصدها وتدميرها، كذلك ستكون الغواصات الهجومية الخفية جزءاً أساسياً من أي قوة داخلية في أولى مراحل الصراع، ويمكن استكمال هذه القوات الاحتياطية عبر تشغيل قاذفات من قواعد بعيدة لإطلاق نيران كثيفة ومتواصلة، وفي غضون ذلك، تؤمّن القوات البحرية السطحية قدرات الدفاع الجوي والصاروخي في مواقع محورية من تلك المنطقة لزيادة فرص صمود قواعد واقعة على مسافة أبعد.
لكن لن ينجح هذا النموذج الجديد إلا إذا نقلته الولايات المتحدة إلى حلفائها وشركائها، يجب أن تتزامن هذه النشاطات مع جهود دبلوماسية مدروسة لتفسير أهميتها أمام أبرز شركاء واشنطن، بما في ذلك اليابان، وإقناعهم بتبنّي المقاربة الجديدة. في النهاية، لا يمكن ردع الصين بطريقة شاملة من دون تكثيف التعاون بين الأميركيين وحلفائهم وشركائهم، مما يعني أن تتولى قوات الدفاع الذاتي الجوي اليابانية الدفاع عن مجالها الجوي مثلاً، فتترك المجال مفتوحاً أمام تنفيذ مهام أخرى عبر الطائرات الأميركية، كذلك، تبرز الحاجة إلى تسهيل الوصول إلى قواعد أخرى مؤقتاً لتنفيذ عمليات متفرقة في اليابان، فضلاً عن بلوغ وحدات صاروخية برية أميركية.
غالباً ما يكون التغيير صعباً لكنه ضروري، وقد يكون الاستغناء عن طائرات F-15C/D في قاعدة «كادينا» فرصة لتغيير ميزان القوى بطريقة إيجابية في سلسلة الجزر الأولى، من خلال زيادة قوة التحمّل الأميركية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتتطلب هذه العملية تحسين القواعد العسكرية، وتحديد مواقع المعدات مسبقاً، وتغيير الوحدات الأصغر حجماً في القوات العسكرية الأميركية بالتناوب للتدرّب على عمليات متنوعة.
أخيراً، لا مفر من تكبّد بعض التكاليف لأن وزارة الدفاع لا تملك عدداً كافياً من القوات العسكرية لنشرها في كل مكان، ويجب أن يعطي القادة الأميركيون الأولوية لمنطقة المحيطَين الهندي والهادئ ويقاوموا نزعتهم إلى نشر الجنود في الشرق الأوسط مع كل استفزاز إيراني جديد، ولن يكون بناء قوة قتالية فاعلة لمقاومة العدوان الصيني سهلاً أو قليل الكلفة إذاً، ولكن إذا توزعت القوات الأميركية على مختلف القواعد في سلسلة الجزر الأولى والثانية وتراجع عدد الجنود في قاعدة «كادينا»، فستتمكن تلك القوات من مجابهة الاعتداءات والتعافي سريعاً وإطلاق عمليات فاعلة لهزم العدوان.
* ستايسي بيتيغون وأندرو ميتريك وبيكا واسر