لكم لبنانكم... ولي لبناني!

نشر في 19-08-2024
آخر تحديث 18-08-2024 | 19:50
 د. بلال عقل الصنديد

ما فتئت الدول العربية والأجنبية تحذر رعاياها من التوجّه إلى لبنان، بسبب استمرار تبادل إطلاق النار بين جيش الاحتلال الإسرائيلي وحزب الله في جنوب البلاد مع الخشية من تصاعد الاقتتال وتوسع رقعة الحرب لتشمل لبنان كله.

ورغم هذا الجو المتوتر وحالة الترقب السائدة، لا تزال بلاد الأرز قبلةً لكثير من الأصدقاء العرب والسياح الأجانب، ولا يزال جزء كبير من الجغرافيا اللبنانية مشتعلاً بأضواء وأصداء الاحتفالات والمهرجانات الفنية والفعاليات السياحية، في حين تشتعل القرى الحدودية الجنوبية وبعض المناطق المستهدفة بنيران العدوان الإسرائيلية!

وكأننا أمام لبنانين منفصلين ومختلفين يتواجدان في بلد واحد وتحت سماء واحدة! وإذا ما غصنا أكثر في تركيبة الشعب اللبناني، وحللنا نمط عيش مكوناته المناطقية والثقافية والدينية، فقد نجد أنفسنا أمام أكثر من لبنان في بلد واحد.

الواقع أن هذه الخصوصية اللبنانية ليست بجديدة، وقد تعود جذورها إلى العصور الوسطى، الأمر الذي تجلّى في عصرنا الحديث منذ لحظة إعلان «دولة لبنان الكبير» حيث كان الانقسام السياسي والشعبي محتدماً بين «عروبيين» مصرّين على الالتحاق بثقافة المحيط المتأثر في غالبه بالقيم والتقاليد الشرقية والإسلامية، والقسم الآخر من الشعب اللبناني الذي انجذب وجدانياً إلى الثقافة والقيم المنقولة إليه من فرنسا «الأم الحنون» والإرساليات الغربية، التي نشطت في جبل لبنان منذ أواسط القرن الثامن عشر.

لهذا الواقع عدة حسنات، كما أنه سبب للعديد من السلبيات، فالشعب اللبناني -على اختلاف مكوناته- تشرّب التنوع الفكري والديني والثقافي وتعايش معه إيجابياً ليجترح الإبداع في كل المجالات مرتكزاً على فطرة الانفتاح على الثقافات المختلفة، ومستسهلاً التأقلم مع جميع شعوب الأرض بما مكّنه من تسجيل الإنجازات اللبنانية في الميادين كافة، وفي جهات الكرة الأرضية الأربع.

من جانب آخر، فإن هذا الواقع قد يُعزى إلى انفصام حاد في شخصية المجتمع اللبناني، الأمر الذي تجلّى في أكثر من مناسبة اجتماعية، سياسية، أمنية وحتى اقتصادية، ويرتبط بشكل بارز بالعلاقة التبادلية بين انهيار المنظومة الرسمية وتصاعد أدوار المنظومات الرديفة.

الواقع أن قصّة الدولة اللبنانية مع المنظومات الرديفة تشبه قصّة «البيضة والدجاجة»، فليس من السهل أن نعرف إن كان انكفاء الدولة عن القيام بواجباتها تجاه مواطنيها من كل الشرائح والمناطق هو الذي برّر قيام المنظومات البديلة؟ أم أن تماسك وصلابة هذه الأخيرة هو الذي أدى إلى شلل الدولة ومؤسساتها الرسمية؟!

أياً يكن الجواب والحقيقة، فإن الواقع يشي بأن لبنان الشعبي والرسمي يعيش على طرفي نقيض، وربما على أطراف متباعدة من شبكة متشعبة ومتعددة الأذرع اجتماعياً ودينياً وثقافياً ومناطقياً، وإلا فكيف يُفهم تصريح رئيس كتلة حزب الله النيابية محمد رعد الذي عبّر من خلاله عن استيائه من بعض اللبنانيين المنشغلين بالـ»السهر وارتياد المسابح والملاهي، بينما الحرب دائرة»؟!

***

كم كان صادقاً جبران خليل جبران عندما كتب في مجلّة «الهلال»، على أثر إعلان دولة لبنان الكبير، مقالاً بعنوان «لكم لبنانكم ولي لبناني» مضيئاً فيه على تمسك كل فئة من الفئات اللبنانية بفهمها الخاص للبنان، مستنكراً الوصول بهذا الاختلاف إلى خلاف، داعياً إلى الحوار والانفتاح والوصول إلى عيش واحد وليس مشتركاً، فإن كان الاختلاف ثراء فإن التقوقع والعنصرية وباء.

يقول جبران: لكم لبنانكم ولي لبناني، لكم لبنانكم بكل ما فيه من الأغراض والمنازع، ولي لبناني بما فيه من الأحلام والأماني.‏..

لبنانكم عقدةٌ سياسية تحاول حلها الأيام، أمَّا لبناني فتلول تتعالى بهيبة وجلال نحو ازرقاق السماء.

لبنانكم مشكلةٌ دولية تتقاذفها الليالي، أما لبناني فأودية هادئة سحرية تتموَّج في جنباتها رنَّات الأجراس وأغاني السواقي.

لبنانكم صراع بين رجل جاء من المغرب ورجل جاء من الجنوب، أما لبناني فصلاة مُجنَّحة تُرفرف صباحاً عندما يقود الرعاة قُطعانهم إلى المروج، وتتصاعدُ مساءً عندما يعود الفلاحون من الحقول والكروم.‏

لبنانكم حكومة ذات رؤوس لا عداد لها، أما لبناني فجبل رهيب وديع، جالس بين البحر والسهول جلوس شاعر بين الأبديَّة والأبديَّة...

لبنانكم طوائف وأحزاب، أما لبناني فصِبْيَة يتسلقون الصخور ويركضون مع الجداول ويقذفون الأكر في الساحات.

لكم لبنانكم وأبناؤه، ولي لبناني وأبناؤه، ومن هم يا تُرى أبناء لبنانكم؟

ألا فانظروا هُنيهة لأُريكم حقيقتهم، هم الذين وُلدتْ أرواحهم في مستشفيات الغربيِّين، هم الذين استيقظتْ عقولهم في حُضن طامع يمثل دوراً أريحياً، هم تلك القضبان اللينة، التي تميل إلى اليمين وإلى اليسار...

هم الأشدَّاءُ الفصحاءُ البُلَغَاء، ولكن بعضهم لدى بعض، والضعفاء الخرسان أمام الإفرنج، هم الأحرار المصلحون المتحمسون، ولكن في صحفهم وفوق منابرهم، والمُناقدون الرجعيون أمام الغربيِّين...

ولكن قفوا قليلاً وانظروا لأُريكم أبناء لبناني: هم الفلاحون الذين يُحولون الوعر إلى حدائق وبساتين... هم البنَّاؤون والفخَّارون والحائكون وصانعو الأجراس والنواقيس، هم الشعراء الذين يسكبون أرواحهم في كؤوس جديدة، وهم شعراء الفطرة الذين ينشدون العتابا والمعنى والزجل.

هم الذين يغادرون لبنان وليس لهم سوى حماسة في قلوبهم وعزم في سواعدهم، ويعودون إليه وخيرات الأرض في أكُفِّهم وأكاليل الغار على رؤوسهم.

هم الذين يتغلبون على محيطهم أينما حلوا، ويجتذبون القلوب إليهم أينما وُجدوا.

وهم الذين يولدون في الأكواخ، ويموتون في قصور العلم.

***

لا شك في أن التنوع اللبناني قد يثير الانتباه ويجذب إليه هواة هذا النوع من الفسيفساء التي قد تبدو ساحرة رغم تعقيد تراكيبها، ولكن الحقيقة المرّة أن لبنان بحاجة إلى رؤية موحدة تجمع بين هوياته المختلفة، وتُنسّق بين مكونات مجتمعة المتنوعة، تحت طائلة تجدد الأزمات في أول فرصة تسمح الظروف بذلك.

فمهما حاول اللبناني الاختفاء حول قدرته على التأقلم، ومهما راهن على أمل تخطي مصائبه المتراكمة والمتنوعة، ومهما عاش حالة النكران وابتداع الحلول للاستعاضة عن افتقاده للخدمات العامة التي يفترض على الدولة ومؤسساتها الرسمية أن تقدّمها له أينما وجد على مساحة الـ»10452» كيلومتراً مربعاً، فإن واجب البحث عن بوصلة لبنانية واحدة تحت سقف سلطة رسمية فاعلة هو الحلّ النهائي والجذري، مهما حاول البعض إيهامنا بأن قوته أو خياراته أو تمايزه ترتبط بضعف المنظومة الرسمية أو انهيار مفهوم الدولة!

* كاتب وباحث قانوني

back to top