لا شيء يعادل مشهد الموت في الذاكرة... لا شيء. خصوصاً إذا كان الموت دون نهايات، بمعنى ألا يستطيع الفرد منا أن يدفن موتاه ويذرف دمعاً غزيراً، ثم يلملم الصور والذكريات ليخزنها، ربما ليستطيع لاحقاً، إذا ما سمحت له آلة القتل أن يقتنص اللحظة بين موتين، فيودع أحبته، أو أحبتها، بما يليق بهم.

لم تتوقف مشاهد الموت العلني منذ أشهر طويلة، لكنها لم تبدأ أيضاً فقط منذ السابع من أكتوبر. تعرف ذلك من نحيب الأمهات في فلسطين، الذي لا يتوقف، بل يعبر من زقاق لزقاق، وشارع لشارع، ومن مخيم لجوء لآخر، ومن بلدة لأخرى، ومن مدينة إلى كل مدن العالم المستيقظة وليست تلك الميتة!!

Ad

وللموت ذاكرة لا تموت، كما الحياة التي تأتي ما بعد الموت، لاسيما عندما يكون الموت وجبة يومية، مثل حال أهلنا في فلسطين وجنوب لبنان، بل كل لبنان الذي احتفل بذكرى حرب «تموز 2006» وطائراتهم تستبيح أجواءه وأرضه، وتطارد اللبنانيين، نساءً وأطفالاً ورجالاً وشيوخاً، كما تفعل في فلسطين غير مكترثة بأرواح تزهق، وفي كل مرة تأتي بذرائع على أمل أن يصدقها أحد غير تلك الشلة المتصهينة العابرة لحدوده بل ولكل الحدود!!

يردد اللبنانيون دوماً «تنذكر ما تنعاد» وقائمة ما يتمنون «أن ينذكر ولا ينعاد» طويلة جداً تمرّ عبر اجتياح لعاصمتهم «عروس» المدن، مروراً بانتهاك يومي لسيادة الوطن وقصف وقتل هو في مجمله في جنوب لبنان ولكنه يمتد ليصل إلى كل جباله، فكل الوطن مستباح بل كل الأوطان يستبيحها الصهاينة دون حاجة لتبرير أو حتى محاسبة... مرت ذكرى «حرب تموز» التي كنت فيها شاهدة على الموت، ربما بل ربما على استبسال اللبنانيين في الدفاع عن الحياة... حياتهم كلهم.

مرت أمام عيني صور من الذاكرة، أو هي بضعة مقتطفات مما كتبت حينها رغم أنها لم تبتعد في الزوايا المظلمة من الذاكرة، بل بقيت هناك في منتصفها وتعود لذاك الموقع، كلما استمر الصهاينة في مخطط إبادتهم نفسه منذ أكثر من 75 عاماً. استغربت أن ما كتبت قد يكون صحيحاً ليس للحرب على الجنوب، بل تلك التي بدأت من غزة. لن أجد من كلمات تصف الوضع في غزة ولبنان الآن أكثر صدقاً في حالة القتل المستمر ضمن مخطط الإبادة الجماعية والتطهير العرقي لكل العرب... هنا بعض ما كتبت في 2006: «صرخ الجنوبيون لا ترسلوا لنا حليباً ولا خبزاً بل أكفاناً وتوابيت، لم يعد كل قماش الكون وخشبه يكفي ليحتضن تلك الجثث التي بقيت تحت الركام لأيام تنتظر أن تفسح لها السماء مساحة ليدخلوها في باطن الأرض فترتاح».

كانت المفاجأة هي عندما وجدت بين تلك القصاصات حول «حرب تموز» ما يشير إلى أن كثيرين منا كانوا على وعي كافٍ بأنهم يريدون إبادة كل فلسطيني، ثم كل لبناني، ثم كل سوري، ثم كل وكل بل كل عربي... في تلك القصاصة «يكرر ذاك الذي لا يسمع باعتصام أو مسيرة أو تظاهرة إلا ويحمل لافتة كتب عليها (إسرائيل تنفذ حرب إبادة بالفلسطينيين واللبنانيين)، وهو يتطلع بنظرات العاجز الذي لا يملك سوى الصراخ».

كانوا يقولون كم يشبه اليوم البارحة، ربما علينا أن نغير في هذه العبارة بعض الشيء أو أن نحدثها لنقول كم هي ذاكرتنا قصيرة أو كم نحن لا نتعلم الدروس أو لا نقرأ أبعد من اللحظة لنفهم أن مثل هذا العدو، أي الصهيوني وأصدقاءه وأتباعه ومموليه والساكتين عن إجرامه، لن يكتفي بالإبادة في غزة حتى آخر روح طاهرة بل سيستمر لنابلس ورام الله وحيفا ويافا وكل مدن فلسطين، التي حاولوا أن يطمسوا هويتها عبر تغيير الأسماء. ومن ثم من جنوب لبنان من كفركلا إلى الخيام وبنت جبيل والنبطية وصور وكل الجنوب بل كل لبنان وبعدها!! ألا يقفز السؤال خلف السؤال أمامكم «من القادم؟» فهل نقف ونستمر في الفرجة أم نتحرك لننصر أهلنا حتى لو كان ذلك بالقول والكلمة وهي حقاً أضعف الإيمان.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية