هناك طرفة متداولة عن رد مهندس ياباني يعمل في إحدى دول الخليج على تساؤل صديقه المواطن عما إذا كان التقدم الحضاري لليابان يرجع إلى ارتفاع معدلات الذكاء في اليابان مقارنة بالخليج؟ إذ أجاب المهندس الياباني بالنفي، وقال إنه لاحظ خلال فترة عمله في الخليج تفوق نسبة الذكاء بين المواطنين في الخليج مقارنة بنسبة الذكاء في اليابان، وأضاف أن السبب في تقدم بلاده يعود إلى التزامها الصارم بتعيين النخبة القليلة من الأذكياء في المواقع القيادية. ويتماشى مغزى هذه الطرفة مع قاعدة أساسية في نظرية التنمية الاقتصادية، وهي أن كفاءة الإدارة العامة شرط أساسي لنجاح التنمية. وضمن هذا الإطار يمكن تفسير كيف تمكنت دولة محدودة الموارد، مثل سنغافورة، من تصدر قائمة البلدان المتقدمة، بينما لم تتمكن دولة ذات موارد نفطية ومالية هائلة مثل الكويت من ذلك.
هناك عدة مظاهر لضعف الإدارة العامة، أبرزها تفشي الفساد المالي، ومن أمثلته انتشار الرشوة والاختلاسات والمحاباة في ترسية العقود وتوزيع أملاك الدولة. وكذلك الفساد الإداري الذي يحقق للموظف مصالح شخصية، مثل تفضيل المقربين في المعاملات والتعيينات والترقيات. وأيضا العجز البيروقراطي الذي يتمثل في التسيب الوظيفي وضعف إنتاجية العاملين والإهمال وسوء إدارة الموارد وغياب التخطيط وروح المبادرة وضعف القدرة على اتخاذ القرار المناسب. ورغم أن بعض نتائج العجز البيروقراطي قد لا تكون غير قانونية فإن آثارها السلبية قد تفوق أحيانا تبعات الفساد المالي والإداري.
إن إسناد الوظائف القيادية والعليا لأشخاص بناء على اعتبارات سياسية أو عرقية أو طائفية، بدلا من اعتبارات الكفاءة والجدارة يؤدي إلى تداعيات وخيمة. وخلافا للادعاء الذي يسوقه البعض بأن هذه التعيينات محدودة التأثير وتتلاشى بمرور الوقت مع اكتساب القيادي للخبرة والمعرفة، فإن تعيين المديرين غير الأكفاء يتسبب في تداعيات متواصلة قد تقوض أهداف المؤسسة. ويمكن إيجاز هذه التداعيات فيما يأتي:
• المساهمة المباشرة في العجز البيروقراطي بسبب ضعف القدرات الفنية للقيادي، وعدم قدرته على اتخاذ القرارات الإدارية والفنية المناسبة.
• الإحباط والتثبيط demoralization للمرؤوسين وبقية العاملين والتسيب الإداري وتسرب الكفاءات الوطنية إلى خارج المؤسسة.
• اعتماد المديرين على الخبرات الأجنبية لتغطية النقص في قدراتهم الفنية، أو بسبب تدني إنتاجية المواطنين العاملين نتيجة شعورهم بالإحباط.
• التوجه نحو زيادة القيود الإدارية والبيروقراطية والمركزية في اتخاذ القرار كحل بديل لتلافي حدوث الأخطاء الفنية والإدارية الناجمة عن ضعف قدرات القياديين.
• يترتب على التراخي في تطبيق قواعد ثابتة وواضحة للجدارة في اختيار القياديين تنامي الفساد السياسي، حيث يتعاظم دور نواب الخدمات والتعيينات مقابل تهميش دور النواب الإصلاحيين، ويتحول البرلمان إلى وسيلة لتحقيق مآرب فئوية بدلا من كونه أداة فاعلة للرقابة والتشريع.
خلاصة القول هي أن التقيد بمعايير الكفاءة والجدارة في اختيار القياديين مسألة جوهرية، ليس من الناحية الأخلاقية، أي التزاما بمبدأ العدالة وتكافؤ الفرص، فحسب، وإنما لعلاقته الوطيدة بتحقيق النمو والتطور الاقتصادي.
* خبير اقتصادي