ماريا وجودها كان أصيلاً
ماتت ماريا بارنيس، أكبر معمرة في الدنيا. عاشت 117 عاماً، وشهدت الكثير من أحداث العالم، من الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينيات القرن الماضي والحرب العالمية الثانية، وعاصرت مجالس الأمة والحكومات المتغيرة الكويتية، وإن لم تكن تدري عنها، وهذا أبرك لها.
ماريا أميركية من أصول إسبانية لم يصبها الخرف «ديمنشا» حتى لحظاتها الأخيرة، وقالت: «أنا مسنة لكني لست غبية» (نيويورك تايمز)، وذكرت أنها لم تفعل شيئاً حتى تصل إلى هذا العمر الممتد، برنامج غذائها كان أقرب لحمية منطقة البحر المتوسط، المكون من الخضراوات والفاكهة وزيت الزيتون.
الفحص الطبي لها يعلل طول عمرها بطبيعة جيناتها الوراثية التي تقاوم علل الزمن، وقالت قبل وفاتها بأيام قليلة: «حين أموت لن آكل الزبادي الذي أحبه، ولن أشرب القهوة، ولن أطبطب على كلبي...». مثلها قال الشاعر رامبو في رسالة لشقيقته بعد أن اشتد به المرض: «سأكون تحت التراب بينما تسيرين أنت تحت الشمس»!
المؤكد حسب مقولات الرواقيين، أنه لن يشعر أي منهما بشيء بعد الوفاة. ينسب لشيخهم أبيقور أنه قال لرفاقه: حين أموت ارموني في الصحراء، فرد عليه أصحابه: كيف ذلك ستنهش لحمك الكلاب؟! قال لهم: إذاً أعطوني عصاة أخيفها بها، فضحك منه رفاقه، إذ كيف يفعل ذلك وهو ميت... فرد عليهم: ألم أقل لكم إني على حق؟!
لما سأل الطبيب ماريا عما إذا كانت تتوقع شيئاً من الغد ردت عليه بكلمة واحدة هي «الموت». كان وجودها أصيلاً، فهي ككائن حي يدرك ذاته ويدرك أنه موجود في الزمان، الكائن الإنساني بوعيه الأصيل يدرك أن حياته زمن - مكان مؤقت، ولا ينسى حقيقة الموت التي ستبتلعه في أي لحظة. الموت هو نهاية الاحتمالات، هو يقين، لكن الكثير من الناس ينسون هذه الحقيقة ويغرقون في كماليات الدنيا وزينتها، كرصيد ضخم بالبنك، وسيارة فارهة، وقصر عظيم، ومنصب سياسي كبير، إلخ.
تولستوي يقدم لنا مثالاً ودرساً في قصة موت إيفان إيليتش، فقد نسي هذا الإنسان الوجود الأصيل، وغرق لتحقيق طموحاته ورغباته المالية والاجتماعية العالية، ونسي أن هناك نهاية، وحين اقترب منه الموت بعد أن اشتد به المرض لم يجد قربه غير خادمه الوفي، أما أسرته فقد كانت تنتظر لحظة فراقه لترث ما تركه لهم... كان وجود إيفان «كاذباً» غير أصيل عند هايدغر... لأنه نسي زمانية الوجود.
ماتت ماريا عن 117 عاماً، وشغل خبر وفاتها الإعلام، أما الموت اليومي لمئات ألوف الأبرياء في غزة والسودان وغيرهما في أماكن البؤس، فليس له أهمية، فهذا العالم تقوده قوى متغطرسة لا تملك قياداتها وجوداً أصيلاً.