هيفي قجو: الإبداع صدقٌ في السرد وبُعدٌ عن التكلف

أديبة سورية مغتربة بألمانيا تؤمن بأن الياسمين يضفي قدسية على إبداعها

نشر في 23-08-2024
آخر تحديث 22-08-2024 | 19:10
No Image Caption
مبدعة من طراز فريد، تطوّع النص كيفما تشاء، سردًا أو شعرًا، أو مزجًا بين اللونين، لكنها في النهاية تترك عليه بصمةً من روحها الحالمة، وتمد حبلًا سُريًا بين ما تكتبه ووطنها الأم. فرغم هجرة الأديبة الكردية السورية، هيفي قجو، قبل سنوات إلى ألمانيا، فإنها لا تزال متعلقة بجذورها، محلقة في فضاء الإبداع بين الحزن والفرح، وعندما تقرأ أيًا من نصوصها تشعر بنبض قلبها وتهيمن عليك رائحة الياسمين. وفي حوار أجرته معها «الجريدة» من القاهرة، قالت قجو، إن الاغتراب يؤثر في نصها، وأنها حين تكتب تُنهي النص في الوطن، مؤكدة أن الإبداع صدق في السرد وبُعد عن التكلف، لافتة إلى أن الشعر لغة عالمية راقية بإمكانها الإحاطة بهسهسة الروح.. وفيما يلي نص الحوار:

• ارتحالك من سورية إلى ألمانيا كيف انعكس على نصكِ الإبداعي؟ ألا يزال الاغتراب يؤثر فيه أم أن هناك مزايا لتجربة الهجرة لبلد آخر؟

- الهجرة من سورية لم تكن يومًا من أولوياتي، ولم أفكر قط في ترك بلادي، لكن ما حدث فيها وما يحدث أجبرني على خيار اللجوء، كلما كنت أعبر شبرًا من البلاد كنت أترك جزءًا من قلبي هناك، وحين وصلت إلى بلاد اللجوء أمسيت دون قلب، شجرة منزوعة تبحث عن أرض شبيهة بأرضها لتثمر من جديد، لكن هيهات الوطن هو أنت وأهلك وأصدقاؤك ومحبيك، من الصعوبة بمكان العثور عليهم هنا.

الشوق إلى الوطن والأهل والمعاناة التي يعانيها الأهل هناك وعدم الأمان والأوضاع المعيشية المنهكة جعلتني أعقد قرانًا مع البياض وأخط عليه هذه الآلام والأوجاع، لذا فخيار اللجوء لم يأتِ هكذا بمحض إرادتي، لقد كان خيارًا لا بُد منه لأنجو من الألم والمعاناة، ولم أكن لأعلم أنني سأعاني أكثر ههنا.

لذا نعم الاغتراب لا يزال يؤثر في نصي، وكلما حاولت كتابة شيء جديد تراني أنهي النص في الوطن.

• «زنابق برية»، «دمعتان»، «عراء موحش»، «جثة وضباع»... قصص رغم اقتضابها فإنها تمزق القلب بتأثيرها العميق... هل يعد الألم أقوى مصدر للإبداع الإنساني؟



- ذكرت عناوين قصصٍ مختلفة من مجموعاتي الثلاث، هذه القصص حقيقية حدثت في الأمر الواقع ببلادي المنهوبة، الممزقة والثكلى.

الألم والحزن يتركان بصمة واضحة وأثرًا عميقًا ومضاعفًا في النفس البشرية، حين يقرأ المرء قصة حزينة أو قصيدة حزينة فإن ذاكرته تحلِق به في ذات الحظة إلى حزن وألم قد عانى منه سابقًا أو راهنًا.

الحزن والألم يدومان لكن الفرح وقته قصير وقلة منْ باستطاعتها الفرح الدائم.

لكن هذا لا ينفي أن الفرح والسعادة يتركان الأثر ذاته كما في الحزن والألم حين يتمتع النص السردي بالصدق.

حين أكتب أنهي النص في الوطن

الإبداع برأيي هو الصدق في السرد والبعد عن التكلف والتصنع.

النص الذي يترك أثرًا في النفس البشرية سواء كان عن الحزن أو الفرح فهو نص يليق به قول الإبداع.

• هل تكتفين في كل قصصكِ القصيرة جدًا بالبحث عن الياسمين في أروقة المدن؟!

- الياسمين... لم أكتفِ بالياسمين فحسب، ذكرت الورود والأزاهير في أغلب نصوصي، لكن الياسمين هو واسطة العقد.

أحاول ان أتجنّب ذكره، لكنّه يعود بقوة إلى نصوصي.. يعود ليضفي عليها قدسيّة ما.

الياسمين هو شغفي وحبي، حياتي التي لم أهنأ بها، تسرَّب من بين أصابعي كالماء الزلال في غفلة مني وأنا كلي أمل أن يجمعني به عمر آخر، لكن أي عمر؟ ما ذهب لن يعود وانتظاره جنون ينهك الروح ويتركها طعمًا هينًا للحزن والألم.

الشعر العميق وحده يُفهم من السياق

كان يدعوني بـ(Jasmine)، لكنني أمسيت ياسمينة الغياب... أتذكرُه حين زرعني ذات خريف على شرفته المقابلة لجنوني!

أخبرني وقتها: يكفي أن أداعب بتلاتك مباغتة ليفوح عطر عناقاتنا الطويلة...

باذخ هذا الصباح البرليني، باذخ حد الترف، يكفي أنه لامس ذلك الخيط الأبيض من الشوق وأتكأ على ظلي المنتشي بعودته حلمًا..!

• تكتبين الشعر أيضًا، وفي قصصكِ صوت شعري، أيهما يحل لديكِ أولًا في ترتيب أولويات الكتابة: الشعر أم السرد؟



- بداياتي كانت شعرًا، أنهيت مجموعتين شعريتين، هما «ضوء يغمرني حتى اليقين»، و«كشجرة يتلقفها المساء»، قبل البدء بكتابة القصة القصيرة جدًا، لكنني لم أطبع المجموعتين، وآثرت خوض تجربة في مجال القصة القصيرة والقصة القصيرة جدًا، بعد تجربتي الأولى في عالم السرد وأقصد هنا شهقتي الأولى باكورة أعمالي «بعد آخر» توصلت لقناعة أنني أفضل كتابة القصة القصيرة جدًا، فمقدوري أن أوصل الفكرة من خلال التكثيف والاعتماد على الأسلوب الشعري في صياغة النص.

لذا فإن أسلوبي في المجموعتين «أصابع العازف أو كصوت ناي بعيد»، و»أدراج عالية... جهات عمياء»، مزج بين السرد والشعر.

نعم أكتب السرد شعرًا كما وأكتب الشعر سردًا في أغلب الأحيان.

ومنْ يلاحظ كتابتي بإمكانه أن يكتشف أنني أحاول المزج بين الأسلوبين السردي والشعري حتى أعطي للنص بعداً فنياً باذخاً من خلال الصور الشعرية والاستعارات التي تسافر بالقارئ إلى عوالم حالمة.

أمزج بين السرد والشعر لأمنح النص بُعداً فنياً باذخاً

وهذا ما ساعدني على الخروج من النمطية المعتادة للقصة القصيرة جدًا والتحليق بها عاليًا في فضاءات الخيال، كما أزعم حيث لا قيود تربطك ههنا بل حقول شاسعة على مد البصر تقطف منها ما تشاء وتهديها لمنْ تشاء، لذلك لا أولويات هنا الشعر والسرد كلاهما له ذات المكانة لدي.

• أنهيتِ إحدى قصائدك العربية بعبارة: Ez ji te hez dikim، لا أعرف هذه اللغة لكنني شعرت أن معناها: «أنا أحبكِ»، إن كان فهمي صحيحًا فهل الشعر لغة عالمية تُفهم من السياق؟

- نعم الجملة تعني: «أحبك»... الشعر لغة عالمية، لغة راقية باستطاعتها الإحاطة بهسهسة الروح بغض النظر عن اللغة التي يكتب بها.

بيد أن لا يمكننا إسقاط هذا المصطلح على كل الشعر، حيث إن الشعر العميق وحده يفهم من السياق وباستطاعتنا أن نقول عنه لغة عالمية، سماعه يبحر بنا إلى عوالم فريدة حتى إن كان بلغة أخرى، إذ إن تجارب الشعوب متشابهة رغم اختلاف وتعدد الثقافات، كما إن المشاعر والأحاسيس البشرية تمر بشتى المراحل وتتشابه فيما بينها التي يمكن إسقاطها على شعوب الأرض عامة.

لذا باستطاعتي القول إن الشعر هو لغة الروح ولغة عالمية تُفهم من السياق.

• كونك كردية وتكتبين بالعربية، تحت أي أدب يندرج إبداعك؟ الأدب العربي بحكم اللغة أم الكردي في ضوء ما ينقله النص للقارئ من تفاصيل وذكريات وأجواء؟

- يمكنني القول إن ما يكتب وما كتب بالعربية من خلال كاتبات وكتاب كُرد أدب لا يمكننا إطلاق اسم أدب كردي أو عربي عليه، هو أدب آخر وُلِد نتيجة اقتران جميل بين الفكر الكردي واللغة العربية، إبداع متميز يختلف عن الأدب العربي بما يحمله من روح ومشاعر وأحاسيس كردية بحتة، أدب يمتاز بإحاطته بالواقع الكردي من كل الجوانب لكن بكتابة عربية، وليس أدبًا كرديًا لأنه كُتِب بلغةٍ لا تمت للكردية بِصلة، وأقصد هنا اللغة الأم للكاتب/ة.

إن الأدب بغض النظر بأي لغة يُكتب أو يُنشر هو إبداع، خلقٌ جديد وإضافة ماتعة للإنسانية.

back to top