«الهزيمة الغريبة»... عندما يدوّن المؤرخ مشاهداته مقاوماً للنكسة!
عام 1940 ألفّ المؤرخ الفرنسي مارك بلوك كتاب «الهزيمة الغريبة» l’Etrange défaite الذي نشر لأول مرة عام 1946 بعد سنتين من إعدامه من القوات النازية التي احتلت فرنسا ولم تخرج منها إلا عقب هجوم الحلفاء وتحريرها بالتعاون مع المقاومة الفرنسية.
المؤرخ مارك بلوك انضم إلى الجيش خلال الحرب الأولى، وبعد انتهائها عاد إلى التدريس واستكمال أطروحة الدكتوراه حول الأرياف الفرنسية خلال القرون الوسطى، وبادر آنذاك برفقة عدد من زملائه إلى إدراج التاريخ الاجتماعي والاقتصادي كمبحث لفهم بنية العلاقات السائدة، وإحداث قطيعة معرفية في دراسة التاريخ من خلال تأسيس مدرسة الحوليات Ecole des Annales.
وفي هذا الكتاب شرح أسباب الهزيمة، معتبراً أن هزيمة الجيش الفرنسي لا تتعلق بالمسائل التسليحية أو اللوجستية فقط، بل رأى فيها هزيمة أخلاقية وثقافية، وقدم رؤيته لتاريخ الزمن الراهن، ونجح إلى حد كبير في تفكيك بنية التحولات ونتائجها، محاكماً هذه الهزيمة، ومراجعاً جذورها الكامنة في مسارات الحرب العالمية الأولى ومآلاتها، التي اعتبرها قادحاً لما حدث خلال الحرب الثانية، فقد حمّل مارك بلوك القيادة العسكرية والنخب السياسية الهزيمة منتقدا أساليبها وتقاعسها.
وخلال السنوات (1940– 1943) ألف بلوك كتاباً مرجعياً آخر حول مهنة المؤرخ ومتطلباتها Apologie pour l›histoire ou Métier d›historien، وذلك بعد انتقاله إلى المنطقة الحرة جنوب فرنسا، كما عاد للتدريس بالجامعة رغم حملات التضييق التي تعرض لها ومصادرة مكتبته، هذا الكتاب الذي لم ينشر إلا في نهاية الأربعينيات بإشراف رفيق دربه لوسيان فافر.
وشكل التحاقه بالمقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي في 1943 مرحلة أخرى لم تدم طويلاً فقد اعتقل في شهر مارس 1944 بمدينة ليون، وفي 16 من يونيو من العام نفسه تم إعدامه مع عدد من رفاقه.
كوة من الأمل فتحها المؤرخ في ختام دراسته للحث على التضحية في سبيل الأوطان، مترجما قناعاته بالانضمام للمقاومة ضد الاحتلال، وقد وصلتنا هذه الدراسة المنهجية التي حفظت في منزل أحد أصدقائه وتم نشرها لاحقاً بعد هزيمة ألمانيا وتحرير فرنسا.
مارك بلوك المؤرخ المجدد مررّ هذه الرسالة التي لا تتعلق بواقع فرنسا آنذاك فقط، بل تبدو من خلال استقراء عميق لمعانيها رسالة ذات بعد إنساني عميق، طرح فيها غرابة الهزيمة واستقالة النخب وانطواء المثقفين وتشظيات الانتماء وخيانة الأوطان، لتصبح الهزيمة بأبعادها الذاتية والموضوعية، فكرة جدلية ومفهوما ملتبسا، في زمن الحرب والسلم، وقد تبدو في بعض الأحيان مفارقة عصية على الفهم، مما يجعل فتح النقاش حولها ضرورة معرفية.