«ذَهَبوا أَيْدي سَبا»، أو «وَتَفَرَّقُوا أَيْدي سَبا»، مثل عربي قديم قِدَم التاريخ العربي، ومعناه واضح لا لبس فيه، فهو يُقال عندما تتفرَّق الكلمة، وتبتعد القلوب عن بعضها، وعندما تتناحر الشعوب وتتفرَّق إلى شيع وأحزاب، فيكون مصيرها كمصير قوم سبأ. وراء هذا المثل كارثة أصابت اليمن عندما كان سعيداً، فأصبح تعيساً، فكيف حصل هذا لبلد العرب، وأصلهم؟
عن فروة بن مسيك، قال: أتيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقلت: «يا رسول الله أخبرني عن سَبَأ، أرجلٌ هو أم امرأة؟ فقال: هو رجل من العرب، ولد عَشَرَةً، تَيامَنَ منهم ستة، وتشاءَمَ منهم أربعة، فأما الذين تيامَنُوا فالأزد وكِنْدَة، ومَذْحِج والأشعرون وأنمار منهم بجيلة، وأما الذين تشاءموا فعَامِلة وغَسَّان ولَخْم وجُذام، وهم الذين أرسل عليهم سَيْل العَرِم».
ذلك أن الماء كان يأتي أرض سبأ من الشِّحْر وأودية اليمن، فرَدَمُوا رَدْماً بين جبلين، وحبسوا الماء، وجعلوا في ذلك الردم ثلاثة أبواب بعضُها فوقَ بعض، فكانوا يسقون من الباب الأعلى، ثم من الثاني، ثم من الثالث.
فأخْصَبُوا، وكثرت أموالهم، فلما كَذَّبوا رسولهم شعيب بن ذي مهدم، وهو غير شعيب صاحب مدّين، بعث الله جُرَذاً نقبت ذلك الردم حتى انتقض، فدخل الماء جَنَّتَيْهم فأغرقهما، ودفن السيلُ بيوتهم، فقال الله تعالى في ذلك: «فأرسلنا عليهم سيل العرم»، أي السيل الذي لا يُطَاق، وقيل إن العرم هو اسم وادي سبأ.
انهيار سد مأرب أدى إلى هجرات يمنية متتابعة إلى بلاد بعيدة طلباً للرزق وبحثاً عن الكلأ والمأوى، فتفرَّقوا بناءً على نصيحة كاهنة يُقال لها طريفة، بعد أن شكوا لها حالهم، فقالت لهم: قد أصابني الذي تَشْكُون، وهو مُفَرق بيننا، قالوا: فماذا تأمرين؟
فقالت: من كان منكم ذا هَمٍّ بعيد، وجمل شديد، ومزاد جديد، فليلحق بقصر عُمان المشيد، فكانت أزد عُمان، ثم قالت: من كان منكم ذا جَلدْ وقسر، وصبر على أزمات الدهر، فعليه بالأراك من بطن مر، فكانت خزاعة، ثم قالت: من كان منكم يريد الراسيات في الوَحْل، المُطْعمات في المَحْل، فليلحق بيثرب ذات النَّخْل، فكانت الأوس والخزرج، ثم قالت: من كان منكم يريد الخمر والخمير، والملك والتأمير، ويلبس الديباج والحرير، فليلحق ببصرى وغوير، وهما من أرض الشام، فكان الذين سكنوها آل جَفْنة من غَسَّان، ثم قالت: مَنْ كان منكم يريد الثياب الرقاق، والخيل العتاق، وكنوز الأرزاق، والدم المُهْراق، فليلحق بأرض العراق، فكان الذين سكنوها آل جَذيمة الأبرش ومن كان بالحِيرة وآل محرق.
وهكذا قدَّر الله وما شاء فعل، فكان انهيار سد مأرب سبباً لانتشار عرب اليمن إلى حيث هم الآن، فهم أصل العرب، ومنهم نشأوا.
نعم تفرَّقت أيدي سبأ، حفظ الله يمننا، فهو الآن يواجه أسوأ من انهيار سد مأرب، فأهلنا هناك يهجّرون الآن طائفياً، وينزحون قسراً عن ديارهم عندما تفرَّقت أيديهم، وبعد أن سلّموا مصيرهم إلى أعداء أمتهم، فكان سقوطهم حتمياً تحت هيمنة الأجنبي.