تناولنا بمقالنا يوم الأحد الماضي، في تفسير هذه الآية كيف فرَّق النبي ﷺ بين السُّلطة الدينية، وسُلطة الحُكم المدنية، وأنه كان يُوصي الولاة بألا ينسبوا إلى الله ما يؤدون من مسؤولياتهم، لأنهم ليسوا معصومين من الخطأ، بما يستبعد القول بأن طاعة أولي الأمر، وهي طاعة سياسية دنيوية، طاعة دينية تعبدية مستمدة من هذه الآية، التي ورد فيها أمر إلهي بطاعة الله ورسوله، وأن هذا ما سار عليه سيدنا أبوبكر وسيدنا عمر وسيدنا علي، رضوان الله عليهم جميعاً، في عصر الخلافة الراشدة، وأن قالة الطاعة الدينية لأولي الأمر بدأت في عهد سيدنا عثمان، لدرء الفتنة الكبرى لدى الكثير من أهل هذا العصر، التي أدت إلى استشهاد سيدنا عثمان، وانتهاء الخلافة الراشدة باستشهاد سيدنا علي رضي الله عنهما، وقد تبنَّى هذه القالة نفر من علماء الملك العضوض في العصر الأموي، وأصبحت موروثاً تاريخياً في عصر هذا الملك، أموياً، وعباسياً، وعثمانياً، وما تلا هذا العصر من حُكم باسم الإسلام بعد سقوط الدولة العثمانية، بل موروثاً تاريخياً في الجماعات الإسلامية المعارضة للحُكم، فنخر السمع والطاعة في تنظيماتها.
الآية 59 من سورة النساء
في قول المولى عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).
فقد التوى هذا النفر من علماء العصر الأموي في تفسير عبارة «أولي الأمر» الواردة في هذه الآية بعطفها على الأمر الإلهي بطاعة الرسول، لا على استهلال هذه الآية بخطابها إلى المؤمنين كافة في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ...)، خلافاً لتفسير وتطبيق أحكام هذه الآية في عصر النبوة وعصر الخلافة الراشدة في عهد أبي بكر وعمر وعلي، رضوان الله عليهم، لتصادم هذا التفسير وتناقضه مع ما أمر به المولى عز وجل نبيه ورسوله في قوله سبحانه: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)، ومع مبدأ الشورى في عهد الخلافة الراشدة، بما لا يستقيم معه ألا تكون «واو العطف» التي سبقت عبارة «أولي الأمر» معطوفة على استهلال نص الآية «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا»، حيث اختصهم النص القرآني بهذه الطاعة لله ولرسوله، لأنهم أولى المؤمنين بهذه الطاعة، ليأخدوا بأيديهم في الالتزام بأحكام الدين الحنيف، المتمثل في الطاعة لله ولرسوله.
وإنما جاءت الآية الكريمة بحُكم خاص بعد الأمرين الإلهيين بطاعة الله وطاعة رسوله، هو طاعة أولي الأمر لله ولرسوله، لأنها أوجب وأشد من طاعة سائر المؤمنين، لأنهم القدوة لسائر المؤمنين في هاتين الطاعتين، فضلاً عن أنهم يحملون أمانة حُكم المؤمنين ومسؤولياته، وهي أمانة عظيمة ومسؤولية أكبر، وأساس ذلك أن عبارة «أولي الأمر» وردت بعد الطاعتين للاختصاص بفعل محذوف، وأخص منكم «يا أيها المؤمنون» أولي الأمر، وأردفتها الآية الكريمة بكلمة «منكم»، للتدليل على أن الله لم يستثن من هاتين الطاعتين أحداً من خلقه في الالتزام بما تضمنه الدين الحنيف من أوامر ونواهٍ، ومن فروض إلهية ومحرَّمات وردت في القرآن والسنة، وتمثلت في الأمر الإلهي بطاعة الله ورسوله، وهذه الأوامر والنواهي والفروض والمحرَّمات معلومة لكل المؤمنين، فلا يتصور أن يتساوى الأمر بطاعة الله ورسوله فيما هو معلوم ومطلق ومقدس في الزمان والمكان من محل هاتين الطاعتين بما هو غير معلوم من محل لطاعة أولي الأمر وهي نسبية في الزمان والمكان، ولا قداسة لها.
وقد جاء الرسول ﷺ مبشراً ونذيراً وهادياً وسراجاً منيراً، وقد قال في خطبة الوداع قوله تعالى: «اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً»، وقد انقطع الوحي، ولم تعد هناك طاعة لمخلوق بعد وفاة الرسول، فمحل طاعة أوامر ونواهي أولي الأمر غير معلومة، هي والعدم سواء، فلا يتصور أن يأمر المولى عز وجل بما هو غير معلوم، لتعارض ذلك مع قوله سبحانه وتعالى: «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً».
ولعل ما يؤكد ذلك، ويجعله يقيناً لا تشوبه شائبة، أن هذه الآية ربطت الطاعتين لله ولرسوله بالإيمان بالله، في قوله سبحانه: (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، ولا يتصور أن تكون طاعة الناس لأولي الأمر وجهاً من وجوه هذا الإيمان، وأن يعاقب الله المؤمنين يوم الآخرة على عدم طاعة ولي الأمر، ولو كان مستبداً أو فاسقاً أو فاجراً.
خلاصة القول، إن من قالوا بطاعة الناس لأولي الأمر قد أخذوا بظاهر الشيء، لا بلزومه، وخالفوا مقاصد القرآن منه، وهو أن اختصاص أولي الأمر بهاتين الطاعتين أشد وأوجب.
وفي سياق التدليل على سلامة هذا التفسير الذي نأخذ به، نسوق الآيتين 3 من سورة التوبة و28 من سورة فاطر، فيما يلي:
الآية 3 من سورة التوبة
في قوله سبحانه: (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)، إذ لا يتصور أبداً أن يقول أحد إن الله يبرأ من الرسول، وإنما صُرفت واو العطف إلى صدر الآية، لتعطف على المولى عز وجل، بما مفاده ومؤداه أن الله ورسوله يبرآن من المشركين. ومثلما ينبغي صرف «واو العطف» الواردة في آية طاعة الله والرسول على استهلال نص الآية في خطابها (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول).
ومن الجدير بالذكر، أن أبا الأسود في العهد الأموي، وهو أول من اشتغل بالنحو، غضب غضباً شديداً عندما سمع أعرابياً يتلو هذه الآية بكسر اللام في كلمة «ورسوله»، ذلك أن هذا الكسر يصرف واو العطف التي سبقت كلمة المشركين إليهم، وليس إلى الله الذي يبرأ من المشركين، وهو المعنى المقصود من هذه الآية، والذي يحمل عليه نصها وحكمها.
لكن أبا الأسود لم يكن من هذا النفر من علماء عصره في تفسير القرآن الكريم، ليدلي بدلوه في المقصود من واو العطف التي سبقت أولي الأمر، أو نأى بنفسه عن الولوج في مضمار التفسير، حتى يأمن أذى حكام هذا العصر. مثل هذا النفر من العلماء الدين فسَّروا هذه الآية على النحو الذي فسَّروه وفقاً للقول المأثور، طمعاً في «ذهب المعزّ، أو خوفاً من بطشه».
الآية 28 من سورة فاطر
في قوله سبحانه: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)، فحاشا وكلا أن يخشى الله أحداً، وإنما خصّ الله العلماء بخشيته، ليس قصداً حقيقياً، بل قصداً ادعائياً للمبالغة، في خشية العلماء للمولى عز وجل، بحُكم كونهم الأقدر على النظر والتعقل والتفكير والتدبر في وجود الكون وفي خلق الإنسان وتكوين الأرض والسماء وجريان الشمس والقمر وحركة الكواكب والنجوم والأفلاك وتراكم السحاب ونزول الأمطار، وظاهرة الرعد والبرق، وعجائب البحار ونمو النبات في قوله تعالى: (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ)، (سورة الزمر: آية 21)، وأطوار الأجنة في الأرحام، إلى غير ذلك مما يتناوله علماء الكون، لأنهم الأقدر على الإيمان بعظمة الله خالق هذا الكون الناطق، وقدراته بلا حدود ولا قيود في قوله سبحانه: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
ولهذا فسَّر جمهور الفقه المقصود بالعلماء في نص هذه الآية بأنهم علماء النبات والحيوان وعلماء طبقات الأرض، وعلماء الفيزياء والكيمياء، فضلاً عن علماء الطب والهندسة والفلك «نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم»، لفضيلة الشيخ محمد الغزالي- دار الشروق (ط 2000)، (ص 338).
خصوص اللفظ والعموم المعنوي
وفي هذا السياق، يقول علماء أصول الفقه والدين إنه إذا كان النص وارداً في موطن خاص، وكان من الواجب قصره على ما ورد فيه، فإن هناك عموميات معنوية نستنبطها من فهمنا لروح النص القرآني وسبر أغواره وأسرار معانيه للدلالة على مقاصده، والوقوف على مراميه، لجعل الحُكم الخاص حكماً عاماً.
(لطفاً، يرجع في العموم اللفظي والعموم المعنوي إلى ابن حزم وإلى «العقد المنظوم في الخصوص والعموم» للقرافي).
وللحديث بقية إن كان في العُمر بقية.